الديمقراطية أم العلمانية؟

نشر في 03-08-2008
آخر تحديث 03-08-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد رغم أن حزب العدالة والتنمية الحاكم لم يحل، فإن الحكم الأخير للمحكمة الدستورية قد بنى خنادق وحصوناً جديدة للقلعة العلمانية في تركيا، ولكن السؤال هو ما إذا كان ذلك يعزز الديمقراطية أم يضعفها؟

الارتباط بالمصادفة

يعتقد كثيرون أن حكم المحكمة الدستورية يضعف الديمقراطية في تركيا، ويمثل مجرد الخلط بين الديمقراطية والعلمانية طعنة لمفهوم الديمقراطية لسبب بسيط، وهو أنه يجعلها مستعصية في أكثرية المجتمعات الإسلامية أو في الحالات والبلاد التي تحظى فيها الأحزاب الإسلامية بتأييد أغلبية كبيرة من الناخبين.

وبكل أسف يختلط المفهومان إلى حد كبير ليس في العالم العربي فحسب، وإنما في الغرب أيضا، وفي النظرية السياسية ذاتها. وكثيرا ما يراهما الناس في أوروبا بالذات باعتبارهما مفهومين متحدين أو على الأقل مرتبطين ارتباطا لا ينفك. واقع الأمر أن ذلك غير صحيح. فالعلمانية نشأت تاريخيا في أوروبا الغربية كجزء من تعبيرات البحث عن مفهوم جديد للدنيا لا تكون فيه مجرد معبر للآخرة. ولكنها عندما نشأت في القرن السابع عشر وجدت، أو ربما، بحثت عن حليف قوي ممثل في الملكيات الاستبدادية، وذلك لظرف عملي، وهو مناهضة سلطة الكنيسة التي كانت أكثر قوة وأشد استبدادا بالحياة الإنسانية، وبتعبير آخر ولدت العلمانية في كنف الاستبداد في البداية بأكثر مما ولدت في أحضان النظم الديمقراطية. ورغم أنه ليس في مفهوم العلمانية بذاته ما يشير إلى هذا المعنى من قريب أو بعيد، فإنها تفاعلت مع الواقع الذي ولدت فيه أو انتقلت إليه عبر الزمان والمكان، وخدمت العلمانية نظما مستبدة بقدر ما خدمت نظما ديمقراطية.

وفي تركيا ولدت العلمانية في رأس دكتاتور هو كمال أتاتورك ورفاقه الذين أصابهم النموذج الأوروبي بانجذاب لا يقل أبدا عن انجذاب المتصوفة الأتراك الذين نسب إليهم الرجل تخلف تركيا! وبالتالي لم تخدم العلمانية الديمقراطية ولم تشكل جزءا من مسعاها في تركيا إلا بنصوص الدستور وحده. ويقول التمهيد للدستور التركي «... كما بفرض مبدأ العلمانية لن يكون هناك أدنى تدخل من جانب المشاعر الدينية المقدسة في شؤون الدولة والسياسة». وتفصل المادة 11 من هذا الدستور في الحيلولة دون تدخل الرموز والأحكام والتقاليد الدينية في الشؤون السياسية، بل وفي المجال العام بكاملة، أيضا.

وما نلاحظه هو أن الدستور التركي خلط بين الديمقراطية والعلمانية خلطا شديدا، ولا تبرره التجربة التاريخية الأوروبية والتركية، كما لا تبرره النظرية السياسية والقانونية. وربما بسبب هذا الخلط لاتزال هناك مسافة طويلة نسبيا للوصول إلى نظام ديمقراطي مستقر في تركيا.

تعقيدات كثيرة

ومع ذلك فالعلاقة ليست سلسة ولا بسيطة. لابد أن نلاحظ أين تقع الفجوة الحقيقية بين الديمقراطية والعلمانية؟ وفي رأيي أن المشكلة تنشأ عندما تتحد العلمانية مع مبدأ شامل لـ«عبادة الدول»، كما حدث في التجربة الكمالية أو الستالينية. في هذه الحالة تحل «عبادة الدولة» محل عبادة الله سبحانه وتعالى. ويستحيل بناء ديمقراطية حقيقية في ظل هذا النوع من القدسية المطلقة الممنوحة للدولة، إذ تصبح قوة الدولة ومنعتها بذاتها ولو في مواجهة مواطنيها، هي الهدف أو هي فحوى الوجود.

والحقيقة أن نظماً دينية مثل النظام الخميني في إيران يمكن أن ينتهي إلى النتيجة نفسها، وإن بطريق عكسي تماما. فعبادة الله تصبح هي المحك المرئي والمنظور والملموس لعبادة الله سبحانه وتعالى، وتصبح الدولة الدينية لا مقدسة فحسب، بل ومغتصبة أيضا لأنها تنعم بسلطة الله على ضمائر وحياة البشر. فالدولة تستغل وتسيطر على المجتمع بتفاصيله ومجالاته كلها باحتكار وتحويل السلطة الإلهية على الضمير إلى سلطة سياسية على التصرفات والتجليات اليومية للحياة.

فإن كانت الدولة الدينية بهذا المعنى غير ديمقراطية بالضرورة فهل تكون الدولة العلمانية غير ديمقراطية بالضرورة بدورها؟ الحقيقة أننا لا يمكن أن نستنتج ذلك من حكم المحكمة الدستورية في تركيا. وربما نميز هنا بين الديمقراطية كنظام والديمقراطية كعملية. فالنظام السياسي، الذي يشهد حل عشرين حزبا ولو بحكم قضائي من دون سبب إلا مخالفة العلمانية، لا يمكن أن يكون ديمقراطيا خالصا، ولكن قد يؤدي قرار غير ديمقراطي بذاته إلى تعزيز الديمقراطية. والعكس صحيح أيضا. ويمكن- كما قال الفلاسفة اليونانيون القدامى- أن ينتهي النظام الديمقراطي إلى حكم الفرد وإلى استبداده من داخل آليات الديمقراطية. وكان سقراط يسخر من قدرة الحكام الأثينيون على الخطابة وتحريك مشاعر الجماهير إلى درجة الحصول منها على تفويض بإلغاء فعلي لسلطتها المسجلة في الدستور. ويقدم الدستور والنظام الديمقراطي في أميركا ذاتها- وهي أول نظام ديمقراطي في العصر الحديث- نماذج مثالية لهذه الحقيقة. فالدستور يضع بيد الرئيس سلطات هائلة تصل فعليا إلى حد الاستبداد، ولا تضع عليه سوى قيود بسيطة. والأهم أن النظام سمح لآليات الانتخاب الجماهيري بأن تغدر بسلطة الشعب عن طريق التفويض والتمثيل، وهذا هو ما كان قد انتبه اليه التيار الديمقراطي الحق في أوراق فيلادلفيا التي شهدت المناظرات المهمة حول هذا الدستور. أما النموذج الأسوأ بكثير بالطبع، فهو الطريقة التي حملت بها الجماهير الألمانية هتلر إلى منصب المستشارية في انتخابات عامة عام 1933.

ولكن كيف يحدث العكس؟ الإجابة عن هذا السؤال يجب أن تتوخى منتهى الدقة لأن المستبدين يبررون ما يفعلونه كله عادة باسم الديمقراطية. ومع الاعتراف بإمكان إساءة استخدام هذه الفكرة، فلدينا أمثلة كثيرة في التاريخ كانت آلية غير ديمقراطية هي التي ساعدت على نشأة نظم ديمقراطية. الثورة شيء مفهوم. أما الانقلاب فقد يكون غير مفهوم. ولكن أليس أمامنا نموذج مثل الانقلاب العسكري بقيادة سوار الذهب في السودان عام 1985؟

الحكم لم يخدم العلمانية

ولكن ما شأن هذه المناقشة كلها بحكم المحكمة الدستورية في تركيا؟ ما نزعمه هو أن الحكم أساء بشدة لمفهوم العلمانية، وخصوصا في العقل المسلم. ولكنه مع ذلك ولأسباب أخرى تماما قد يخدم العملية الديمقراطية. والسبب ليس لأنه يدافع عن العلمانية، وانما لأنه يقلل من هيمنة حزب واحد على الحياة السياسية في تركيا. ففي الواقع العملي يبدو أن النظام السياسي التركي يتجه تحت سلطة حزب العدالة والتنمية إلى نظام الحزب الواحد. فبينما حصل هذا الحزب على أقل قليلا من نصف الأصوات في تركيا، فهو يكاد يحتكر البرلمان والحكومة والرئاسة. وفضلا عن ذلك فليس هناك حزب آخر في تركيا يتمتع بعضوية تصل إلى خمسة ملايين مواطن وينتشر في كل قرية وكل مدينة وكل حي بمئات الآلاف من المنظمات القاعدية، وإن أضفنا أنه يملك ولو بصورة غير مباشرة عشرات من القنوات الإذاعية والتلفازية والصحف اليومية والأسبوعية، ويتمتع بتأييد قطاع كبير جداً من الطبقة التجارية الثرية في الأناضول والمنظمات المسيطرة على حياة العمال الأتراك في ألمانيا لأدركنا المدى المذهل الذي قد يذهب إليه الحزب في احتكار السياسة والدولة في تركيا ليس فقط من أعلى، وإنما من القاعدة الشعبية كذلك. ولا شك أبدا أنه لو اتجهت تركيا إلى حكم الحزب الواحد فانها تخسر أهم ما كسبته عبر تجربة حزب العدالة والتنمية، وهي بداية جيدة على الطريق إلى الديمقراطية، بل تكون خسرت الديمقراطية نفسها.

العلمانية ليست أمرا مقدسا وليست شرطا نهائيا للديمقراطية، وأثق أن من الممكن إقامة «ديمقراطية إسلامية» في تركيا وفي عدد لا بأس به من المجتمعات المسلمة. ولكن التنوع والتوازن المتحرك شرط تستحيل من دونه الديمقراطية. ومن المرجح أن يعزز حكم المحكمة الدستورية الديمقراطية الإسلامية في تركيا- رغم أنه يتحجج بالعلمانية- لأنه يضعف، ولو شيئاً ما، من قبضة الحزب الواحد على الدولة.

* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

back to top