ارتدت أقلام وألسِنة عدد من الكتاب والمنظرين العرب ثوب الحداد على «الحرية» التي انتـُهكت في جورجيا بأيدي الروس، ولم يكتفوا بذلك، فارتدوا فوق ثوب الحداد هذا ثوباً آخر شديد السواد كوجوههم، لأن ما حصل في جورجيا- مسقط رأس ومنشأ جوزيف ستالين- قد أيقظ الدبّ الروسي الأبيض من سباته العميق الذي غاب فيه عن الوعي والإدراك منذ سقوط إمبراطورية ماركس ولينين في التسعينيات، والذي أدى إلى تتويج الولايات المتحدة الأميركية إمبراطوراً أوحد يملك ناصية الكرة الأرضية ومصير شعوبها الى يومنا هذا.

Ad

إن البكاء والنحيب على زوال وحدانية النسر الأميركي هو قصور في الفهم الاستراتيجي ونقصان في الحس الوطني ولا شيء آخر. ذلك لأن استعادة روسيا مركزها الثاني كقوة عظمى من شأنه أن يعيد التوازن الى الكرة الأرضية بعد أن استفردت الولايات المتحدة، بالتحكم وبالتسلط، على مقدرات الشعوب باستخدام القوة المفرطة، ضاربة عرض الحائط بكل ما له صلة بشرائع الحرية التي لاتزال ترفع شعارها زوراً وبهتاناً.

إن ما وصلت إليه واشنطن بإدارة جورج بوش ونائبه تشيني ورفاقهما ينطبق تماماً على ما قاله واحد من قدماء شعرائنا الأندلسيين بعد سقوط غرناطة من أيدي العرب:

أُعطِيت مُلكاً فلم تـُحسِن سياستـَهُ

وكلُ منْ لا يَسوسُ الملكَ يَخْلعَهُ

لذلك فإن ما حدث بين موسكو وتبليسي يجب أن يكون مدعاة لاحتفال عالمي، خصوصا العالم الثالث، وليس دعوة الى اللطم على الخدود وعلى الصدور والبكاء على الأطلال.

ما جرى في جورجيا لم يكن ابن ساعته والمفاجأة التي أبداها الغرب ليست في محلها. إن الأزمة الروسية-الجورجية هي وليدة سنوات طويلة من الصراع الخفي بدأ في كواليس آخر إدارة للاتحاد السوفييتي السابق عندما نجحت واشنطن في «استيعاب» إدوارد شفرنادزه السوفييتي ثم الجورجي الهوية والأميركي الهوى الذي كان على رأس الدبلوماسية السوفييتية، وكان يُعتبر الرجل الأقوى في تلك الإدارة التي تزعمها الرجل الضعيف غورباتشوف الذي ساهم في إزالة الاتحاد السوفييتي من الخريطة السياسية. في ذلك الوقت عمل شفرنادزه بالتعاون الوثيق مع واشنطن على محاولة إطلاق رصاصة الرحمة على الإمبراطورية الشيوعية عن طريق السعي الى سحب جورجيا من مجموعة دول الاتحاد، وذلك قبل إعلان وفاة هذا الأخير. غير أن غورباتشوف كانت تنقصه الشجاعة للإقدام على هذا الفعل قبل أن تنضج المعطيات المطلوبة له. فاختار شفرنادزه الاستقالة من وزارة الخارجية وانسحب الى بلاده حيث بدأ معركة إخراجها من الاتحاد السوفييتي الذي كان يعيش حينذاك مرحلة الموت السريري. وكان القصد هو تفكيك الإمبراطورية السوفييتية من الداخل حسب نظرية بريجنكسي للتعجيل بإصدار شهادة الوفاة. وبالطبع كانت تقف من وراء شفرنادزه قوى الصهيونية والولايات المتحدة الأميركية. ولا مجال هنا لاستذكار الاحداث التاريخية التي تؤيد هذا القول.

بعد إعلان وفاة الإمبراطورية الشيوعية غرقت روسيا في محيط عميق لا قرار له من الأزمات المعيشية والسياسية حيث توقع أصحاب الرأي والدراسات أن موسكو أصبحت في خبر كان، وأنها بحاجة على الأقل الى مئة سنة لتعيد لملمة أجزائها المتناثرة. لكن القطب العالمي الذي صار وحيدا (الولايات المتحدة) انتشى بخمرة انتصاره الذي لم يكن ينتظر حدوثه إلا بعد عشرين سنة، حسب نبوءة بريجنكسي في ذلك الوقت، فأشعل حربين في أفغانستان وفي العراق وكانت نتائجهما الاقتصادية ارتفاع أسعار النفط الى رقم خيالي. واستغلت موسكو تلك الهدية التي قدمتها لها واشنطن على طبق من فضة، كما قدمت من قبل العراق لإيران على نفس هذا الطبق. ومن عائدات النفط الخرافية (روسيا لاتزال تعتبر المنتج الاول في العالم للنفط والغاز) استطاعت موسكو، خلال سنوات قليلة إيفاء ديونها الدولية والبدء بتنفيذ برنامجها الإصلاحي الداخلي. وبعد أن تنفست الصعداء عادت «الروح القيصرية» لتسيطر على الكرملين. في هذا المجال هناك من يقول إن روسيا السوفييتية هي بالمقياس الزمني أقل خطراً من روسيا القيصرية اليوم. فروسيا السوفييتية كانت محكومة اقتصادياً وسياسياً بتبعات والتزامات نشر وحماية وتوسيع الشيوعية الأممية التي كانت تشل قراراتها في مواجهة الغرب عندما تقضي الحاجة، وتدفعها الى المساومة على حساب مبادئها وطموحها، مما زاد في ضعفها المحلي والاقليمي والعالمي. أما روسيا القيصرية اليوم فقد تحررت من هذه الالتزامات وتلك التبعات اقتصادياً وسياسياً وعادت الى برنامج القيصر نقولا الثاني الذي كان يطمح، فيما يطمح، بأن يكون له موطئ قدم في المياه الدافئة. وهو تعبير سياسي معروف ويعني بالتحديد منطقة الشرق الأوسط، ومياه المتوسط. وموسكو الآن تسير بخطى حثيثة لتحقيق الحلم القيصري، والدليل على ذلك نتائج الزيارة الأخيرة التي قام بها بشار الأسد الى موسكو وما حققته من نتائج لم تكن تخطر على بال واشنطن وحلفائها الغربيين حيث ضُربت أجراس الإنذار في مختلف عواصم الغرب. ولايزال صدى رنين هذه الأجراس يتعاظم بعنف ملحوظ في الأروقة السياسية وفي آذان صنـّاع القرار الغربي مما يدفع الى القول (1): إن روسيا عرفت طريقها وأكملت الخطوة الأولى في المشوار الطويل عبر أزمة جورجيا وهي ليست مستعدة للمساومة على مصالحها التي يعتبرها الكرملين حقاً من حقوقها التاريخية ودفاعاً مشروعاً عن مستقبلها. (2): إن الحرب الباردة التي ينفي وجودها الكرملين، ويخشاها الغرب لم تبدأ باردة كصقيع سيبيريا، كما حدث في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بل «فاترة» (أي قليلة السخونة)، وإذا ما ارتكبت واشنطن مزيداً من الأخطاء في عدم فهم العقلية الروسية الجديدة والاعتراف بطموحاتها فإنها قد تزداد التهاباً في وقت قصير جداً.

إن الخطأ الجسيم الذي ارتكبته واشنطن هو في اتباعها أسلوب الحرب الباردة القديمة في جورجيا عندما أعطت الضوء الأخضر للرئيس الجورجي سكاشفيلي الذي هو تلميذ شفرنادزه النجيب لغزو الإقليم المتمرد ولو لم تفعل واشنطن ذلك لبقي الدبّ الروسي نائماً ولو إلى حين. لكن واشنطن اتبعت استراتيجيتها القديمة التي يمكن تلخيصها بما يلي: إذا أردت أن تعرف الاتجاه الذي ستسير فيه الضفدعة، فما عليك إلا أن «تنكزها» بإبرة صغيرة. إن الخطيئة الأميركية الكبرى هي في اعتبار موسكو القيصرية ضفدعة وليس دباً من النوع الذي تخشاه العين قبل القلب.

أما لماذا أقدمت واشنطن على ارتكاب خطيئتها التحريضية فإن المحللين لم يتفقوا الى الآن على رأي موحد. لكن التحليل الأقرب الى المنطق والى واقع الإدارة الأميركية هو أن واشنطن لم تحسب حساباتها جيدا، وربما كانت على قناعة بأن الاتحاد الروسي صار قاب قوسين أو أدنى من استكمال استعدادات المواجهة، فأرادت أن تختبر مدى قوة عزمه وعزيمته فإذا ردّ على استفزاز جورجيا العسكري أقامت الدنيا عليه، وإذا لم يرد أفقدته ماء وجهه بحيث تمضي بعد ذلك في تنفيذ مشاريعها في محاصرة روسيا سياسياً واقتصادياً وصاروخياً ومن كل جانب آخر. إن واشنطن بتحريضها جورجيا على القيام بما قامت به عسكرياً قد ارتكبت خطأ فادحاً في تحريك أحجار «الشطرنج» على أمل أن تنتهي اللعبة لمصلحتها.. وما الاستفزاز العسكري الجورجي المدعوم من واشنطن، إلا ترجمة لكلمة «كش ملك» في اللغة الشطرنجية. ونسيت إدارة بوش أو تناست –كعادتها- أن البطولة التاريخية في «الشطرنج» كانت ولاتزال للروس شيوعيين كانوا أم قيصريين.

* كاتب لبناني