كما هو متوقع، أعلن الإخوان المسلمون انسحابهم من جبهة الخلاص الوطني، التشكيل السياسي المعارض الذي كانوا أقاموه مع عبدالحليم خدام، النائب السابق للرئيس السوري، ومجموعات صغيرة في ربيع عام 2006. في بادرة لافتة، كان الإخوان علقوا معارضتهم للنظام في مطلع العام الحالي، على خلفية العدوان الإسرائيلي على غزة. التسويغ الذي قدمته الجماعة المحظورة والملاحقة في سورية يحيل إلى «توفير كلّ الجهود للمعركة الأساسية» في غزة. ولقد بدا واضحا بعد قرار التعليق أن العدوان على غزة ذريعة لإعادة تموضع سياسية وإيديولوجية أوسع، تضعهم أقرب إلى الإسلاميين العرب الآخرين (وكانوا معزولين نسبيا بينهم)، وأقرب إلى منطلقاتهم الفكرية الشرعية، وربما تكون مثمرة سياسية فوق ذلك. كان هذا افتراضا رجحناه قبل حين (مقالتي: «الإخوان المسلمون السوريون وتعليق الناشط المعارض... ماذا بعد؟» «الحياة»، 15/3/2009)، ولم تكد تمض ثلاثة أسابيع حتى تأكد ذلك بقرار الانسحاب من جبهة الخلاص في الرابع من نيسان/أبريل الجاري.
لا يكاد المرء يقول شيئاً جديداً إن ربط بين البادرة الإخوانية ومناخات المصالحة العربية والدولية. سياسة الاستقطاب والمحاور تتراجع في كل مكان، ولا يستطيع أي طرف سياسي متبصر ألا يأخذ علما بذلك أو يمتنع عن التصرف بمقتضاه. ولعلنا أيضا لا نضيف شيئا بترجيح أن تكون جبهة الخلاص دخلت في نفق يتعذر الخروج منه. هي أصلا تفاهم محض سياسي بين طرفين لا يجمع بينهما جامع غير ظرف بعينه أوحى لهما أن السياسي المحض يكفي. لم يعد كافيا، إن كان كافيا وقتها. وفي بيان انسحابهم من الجبهة قال الإخوان إن «عقد الجبهة انفرط عملياً، وأصبحَتْ- بوضعها الحاليّ- عاجزةً عن النهوضِ بمتطلّباتِ المشروعِ الوطنيّ، والوفاءِ بمستلزماته». الأطراف الباقية في جبهة الخلاص ليس لها قضية ولا سند اجتماعي. على أن السؤال الأهم يتصل بما إذا كان الإخوان حصلوا على وعود ما من النظام بتفاعل إيجابي مع مبادرتهم إن انسحبوا من جبهة الخلاص بعد أن كانوا جمدوا معارضتهم له؟ يصعب ألا يكون الأمر كذلك. ولا يعقل أن يبادر الإخوان مرتين خلال ثلاثة أشهر دون وعود من أي نوع. هذا بصرف النظر عما إذا كانت وعودا محددة ومباشرة من الجهات المقررة في الحكم السوري، وعما إذا كانت ستتمخض عن شيء ملموس فعلا، وعما إذا لم تكن ضربا من الخداع السياسي. نخمن (دون سند من معلومات يركن إليها للأسف) أنه التقت إشارات إيجابية من نوع ما تلقاها الإخوان من طرف النظام أو وسطاء بينهم وبينه، مع مناخات إقليمية ودولية أقل تشنجا، ومع شعور إخواني بأن جبهة الخلاص أمست عبئا فكريا وأخلاقيا عليهم. فإن نالوا شيئا ملموسا من طرف النظام فازوا، وإن لم يحظوا بشيء لم يخسروا. لكن هل يحتمل بالفعل أن هناك صلات خفية بينهم وبين النظام، وأن نشهد خلال أسابيع أو شهور تغيرا مهما في علاقة «تناحرية» عمرها 30 عاما بين الطرفين؟ إن جرى مثل ذلك فسيكون طفرة ثورية، تتفوق أهميتها الاجتماعية والسيكولوجية والإنسانية على أهميتها السياسية. من جهة هي خطوة مرغوبة نحو تطبيع العلاقات داخل المجتمع السوري بين «أمتين»، تتماهى إحداهما بصورة ما مع «الدين» (لا تتطابق مع الإخوان سياسيا بالضرورة) والأخرى مع «الدولة» (دون أن يعني ذلك أنها موالية للنظام حتما). وعلى المستوى السيكولوجي من شأن تسوية سياسية للصراع الإخواني الحكومي أن تضفي روحا من الاعتدال على المناخات العامة في البلد، فتجرد متطرفين أمنيين وإيديولوجيين من فرص تغذية الريبة والعداوة حيال «الخطر الإسلامي» ونياته ومشاريعه الخفية. وإنما من هذا الباب نتشكك في إمكانية مصالحة تامة بين الطرفين. فهي تنزع من أيدي متطرفي «أمة الدولة» فزاعة مثلى لطالما توسلوها لتسويغ تشددهم ولتوحيد معسكرهم.وفي المقام الإنساني ثمة صفحة يتعين أن تطوى ببادرة رمزية عامة من الطرفين، حتى لو تعذر معالجة كل حالة من حالات تقدر بالألوف بصورة مرضية. والغرض أن نقول إن القيمة الرمزية والنفسية والاجتماعية لتصالح ما نوع ما بين النظام والإخوان تفوق أي اعتبارات سياسية مباشرة. ما ترتب على صراع انطوت صفحاته الدموية قبل أكثر من ربع قرن يتجاوز ما ألحقه الإخوان بالنظام وما ألحقه هذا بأولئك إلى ما لحق بالبنية الاجتماعية والثقافية والنفسية للمجتمع السوري من تباعد وأزمة ثقة وانقسام وطني عميق. والحال أنه ما إن نفكر بالأمر من هذا الزاوية حتى يبدو لنا أنه حتى التصالح بين الطرفين لا يكفي على أهميته. سنتناول الأمر في مقالة مستقلة، لكن نقول منذ الآن ما لا يدرك كله لا يترك جُلُّه.* كاتب سوري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
انفصال الإخوان المسلمين السوريين عن جبهة الخلاص... ماذا بعد؟
09-04-2009