Ad

اضمحلت الطبقة المتوسطة في المجتمع وبات السواد الأعظم من المواطنين مرغماً على التكيف مع استمرار تردي الخدمات العامة، وأصبحت هي الضحية الأولى لسوء القرار والمسدد الأول لفواتير التخلف في الخدمة التعليمية والتراجع المخيف في الرعاية الصحية.

المتتبع للتطور السياسي في الكويت يصطدم بمفارقات غريبة لعل أهمها أن النضج السياسي كان قد اكتمل بشكل كبير مع ولادة الدستور والعمل بالديمقراطية في بداية الستينيات، وعلى عكس المنطق التاريخي والتطور التدريجي فقد بدأت الديمقراطية في الانحدار كفكر وممارسة وتطبيق بعد أول انتخابات عامة في عام 1963، وبمعنى آخر قفزنا بشكل سريع إلى مرحلة الشيخوخة السياسية حتى أصبح الجميع يبكي فقدان عهد الستينيات ويرثي أطلاله!

فالمعروف في أدبيات التطور السياسي أنه بمرور الوقت ومع تجذر التجربة ترتقي العملية السياسية وتفتح آفاقاً جديدة لمزيد من النجاح والاتساع وتتحول معها القواعد القانونية إلى أصول ثابتة وتتحصن بالهيبة والقوة وتتفشى الثقافة الدستورية لتكوِّن العقل الباطن للمواطن والمسؤول على حد سواء.

ولكن ما نراه اليوم، ونتيجة لتراكمات سنوات من الممارسات الخاطئة وسوء استخدام السلطة واستباحة الأموال العامة وخرق القوانين وخصوصاً من قبل مشرعيها ومنفذيها، تحوّل القانون إلى مجرد حبر على ورق، وتحوّل الشريف الملتزم بأصول المواطنة الحقة إلى سفيه، ويوصف مَن يخرج من الوظيفة والمنصب الرفيع بإرث ضخم من المناقصات والشركات والأرصدة البنكية بأنه الذكي الذي عرف قدره وأدرك من أين تؤكل الكتف!

وبين تعريفات السفيه والذكي، اضمحلت الطبقة المتوسطة في المجتمع وبات السواد الأعظم من المواطنين مرغماً على التكيف مع استمرار تردي الخدمات العامة، وأصبحت هي الضحية الأولى لسوء القرار والمسدد الأول لفواتير التخلف في الخدمة التعليمية والتراجع المخيف في الرعاية الصحية وأصبح الأب المتقاعد هو المسؤول الأول عن تغطية أعباء المعيشة لأبنائه الخريجين من الجامعة، وتوفير الرعاية السكنية لهم عند تزويجهم، والبحث عن وظيفة مناسبة لهم، وإن استدعى الأمر إلى الوقوف على دواوين النواب ومكاتب الوزراء لساعات طويلة ولربما لأيام متتالية لبيع ما تبقى من ماء وجهه في التوسل والاستجداء.

أما القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، فقد انشغلت وعلى مدى عقود متتالية في مسارين، ورغم أهميتهما فإنهما صرفا النظر عن أهدافها الحقيقية والمرجوة، وتمثل المسار الأول في التصدي لمحاولات الانقلاب على الدستور ومواجهة مساعي تعطيل الديمقراطية، الأمر الذي استنزف الكثير من فكرها وجهدها كشريك في التطور السياسي والمساهمة في بناء فلسفة التنمية المجتمعية الشاملة.

أما المسار الآخر الذي انتهجته بعض هذه القوى السياسية فهو محاولة الاستفادة الضيقة في أجواء الفساد الإداري والمالي والقانوني المتفشي بغية إرضاء قواعدها الشعبية، ولا نحتاج إلى الكثير من التبصر والذكاء لنكشف تلك المحاولات الرامية إلى الاستحواذ على الوظائف القيادية وصاحبة القرار في المؤسسات الحكومية واللهث وراء إنشاء شركات المقاولة الكبرى للظفر بالمناقصات الحكومية والسعي إلى إرضاء طلبات المحسوبين عليها بأنواع الاحتياجات كلها.

ومن المؤكد أن مثل هذه الاستراتيجية لا تعزز أشكال المحسوبية وتقنن الفساد بأنواعه كلها فحسب، بل تساهم في تجميد العملية السياسية وتغييب البعد التنموي الشامل، أيضاً، وبالتبعية فإنها تُبقي على حالة الشيخوخة السياسية الراهنة التي سيدفع ثمنها البلد ومَن سوف تحتضنهم في القادم من الأيام كما فعلت بالجيل الحاضر!