جاء ديوان سعدية مفرح الأخير «ليل مشغول بالفتنة»، وهو قصيدة واحدة حافظت على رتمها ووحدتها طوال فترات السرد الشعري، ليملأ فراغا شعريا عميقا على الساحة الكويتية، التي تزدهر رواية وقصا، ويخرج السرد الشعري من متشابهات كثيرة وتنويعات تعتمد على مرجعيات طرقت حتى أصابها مرض القدم.

Ad

قد يواجه الكاتب تصادما مع الفضاء يستحيل معه التعايش ويضطر الشاعر الى اللجوء الى فضاءات مبتكرة ومتخيلة تمنحه حرية الانعتاق، وربما يجد نفسه متصادما مع زمن يتكرر حتى الملل وتتجاذبه ثنائيات متعددة كالماضي/الحاضر أو الحاضر/ المستقبل. سعدية هنا تعيش التصادمين معا؛ ولأن التصادم الزمني أوضح من نظيره المكاني سأكرس هذه المقالة القصيرة له.

الزمن الذي أقلق الشاعرة منذ البدايات وهي أمام صور ليس لها أن تكتمل ورغبات ليس لها أن تتحول عن كونها رغبات، رغبات باقية أبدا كما يرى «لاكان» اذا لم يكن لها أن تتحول من الرغبة الى الامتلاء، هذه الرغبة المتصلة الى ما لا نهاية كما صورها «كيتس» في رائعته «ترنيمة الجرة الاغريقية»، والتي يرى النقاد أنها جرة حقيقية شاهدها الشاعر في متحف بريطاني ويختلف البعض حول وجودها ويرى أنها متخيلة، ومهما يكن الحال فإن اللقطة التي نقلها كيتس هي حالة شاب يطارد فتاة دون أن يلحق بها وتوقف الزمن عندها دون أن تتجاوز الرغبة حدود كونها رغبة. ما كان لنص سعدية أن يخرج من ذهني التفكير بلوحة «كيتس» والتي رسمتها سعدية بعيدا عن قلق التناص وانما بحرفية عمدتها سنوات التجربة للشاعرة التي تعد اليوم أحد أعمدة الشعر الكويتي والعربي.

«محاولاته اللاهية أبدا لاقتناصها من مكامنها المنسية

يطارد سنواتك المتلاشية

بفيض ذكورته المنتفضة

ليبقى في مفازة الشهوة

كائنها الأول

وسيدها الأول

دون خسائر محتملة» ص 34

كان يمكن لتلك الرغبة التي أوقفها الزمن تصارع ريح المستحيل وتبقي يد الشاب ممتدة الى أبد ليس له مسمى زمني مستقبلي نحو فتاة باسمة فرت من يديه قبل دقائق أو أقل من توقف اللحظة، اللحظة التي أصبحت كما تقول الشاعرة: «وكأن الزمن يمر بينهما عطرا مختالا»، هو عطر ليس لأي منهما أن يستوقفه وليس له حتى بهجة الفناء.

هذه الصورة التي رسمها «كيتس» مرة واحدة تكررت مرتين لدى سعدية في الفقد الذكوري الذي ألبس الأم وشاح السواد وأبقى الأسود رديف الزمن الساكن يخبئ أي احتمال ممكن لكسر رتابة التكرار. الأسود الذي بدا متسقا مع ليل عجز أن يتجاوزه النهار.

«في كل هزيع أول من ليل أخير

لقيامتك الأبدية

في كل قميص جديد

بورود ناعمة وألوان مبهجة وأزرار مصنوعة من الصدف اللامع

تلبسينه تحت أسودك الأبدي» ص 42

أبقت سعدية صورة الصراع مع الزمن مفتوحة على الأسئلة المنهكة وليس على الاجابات المريحة. فالبدايات الغامضة كانت تشي بفشل النهايات المخلّصة، البدايات التي نجحت بخلق صورة القادم القاتم بين ضحكة لم تتحقق حتى في اللقطة الأولى للفتاة التي فرت من بين يدي حبيبها الغائب عن المشهد لتعيش سرمديتها «بين دمعتين لا تسقطان ابدا».

لم يقدر لمقال قصير أن يفي العمل حقه ويفتح مغاليقه الحداثية ونحن أمام تجربة شاعرية ثرية فكريا، ثراء يفوق أو يوازي التقنية الشعرية والجمع بينهما عصي على الأغلبية، لكنه منصاع للشاعرة بقدرة تحسد عليها.