البرامكة... تراجيديا الصعود والسقوط هل انقلب الرشيد على أقرب أصدقائه غيرة على شقيقته أم خوفاً من نفوذ الفرس؟

نشر في 05-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 05-09-2008 | 00:00
No Image Caption
من الحوادث التي شغلت المؤرخين على مر الأزمنة، ما عرف في التاريخ باسم «نكبة البرامكة»، وهي أسرة تنسب إلى «برمك» وكان مجوسيا من بلخ بخراسان، وكان من خدام معبد النويهار، أكبر معبد للمجوس وقتها، توقد فيه النار ليلا ونهارا ويقومون على عبادتها، فكان برمك وأبناؤه سدنة هذا المعبد، ولما وصلت الدعوة العباسية إلى خراسان كان خالد بن برمك من أكبر دعاتها وزعمائها، وكان ذا صفات عالية أهلته للسيادة ورفعة القدر في صدر الدولة، حتى استوزره أبوالعباس السفاح بعد هلاك أبي سلمة حفص بن سليمان الخلال، فكان مدبر أمره، غير أنه لم يكن يسمى وزيرا، واستمر على ذلك الحال في حياة العباس، فلما ولي أبوجعفر المنصور أبقى خالدا في منصبه مدة ثم ولاه فارس، بتدبير أبي أيوب المورياني الذي تولى الوزارة بعده وأقام فيها مدة، ثم انكسرت عليه جملة من المال فحمل إلى بغداد وطولب بالمال.

وذكر الطبري في حوادث سنة 158هـ أن: أبوجعفر المنصور قد ألزمه برد ثلاثة آلاف ألف (ثلاثة ملايين) ونذر دمه، وأمهله ثلاثة أيام، فاستعان في ذلك بأصدقائه، وجمع ألفي ألف وسبعمائة ألف درهم، فولاه أبو جعفر على الموصل، وبقي كذلك حتى مات أبوجعفر المنصور، وكانت وفاة خالد في عام 163هـ أوائل خلافة المهدي.

أما يحيى بن خالد البرمكي، فكان أديبا شاعرا وعالما، كريما جوادا نبيلا، ولد عام 120هـ، وتربى في كنف الدولة العباسية، وقد اختاره المنصور لولاية أذربيجان عام 158هـ، وفي سنة 163هـ اختاره المهدي ليكون كاتبا ووزيرا لابنه هارون، فكان يدبر أمره وهارون لا يناديه إلا بـ «أبي»، وذلك لأن زوجة يحيى أم الفضل أرضعت هارون، وكذلك أرضعت الخيزران أم هارون، أرضعت الفضل، وعندما ولى المهدي ابنه هارون بلاد المغرب كله عام 164هـ ، من الأنبار إلى إفريقيا، أمر يحيى بن خالد أن يتولى ذلك، فكانت إليه أعماله ودواوينه، واستمر الحال على ذلك إلى أن مات المهدي، ولما تولى الهادي أبقاه على حاله مع هارون، ولما تولى هارون الخلافة قلد يحيى الوزارة، وقال له: قلدتك أمر الرعية ، وأخرجته من حقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت واعزل من رأيت، وامض الأمور على ما ترى، وأعطاه خاتمه.

وكان ليحيى أربعة من الأولاد، وهم: الفضل، وجعفر، ومحمد، وموسى، وفي سنة 178هـ ولاه الرشيد خراسان وثغورها، وتولى جعفر ابنه الشام، وكذلك تولى أشقاؤه ولاية عدة مدن وثغور، وكانت هذه الأسرة في عهد الرشيد تمثل غرة في جبين دولته، فجمعوا من الصفات المحمودة ما استحقوا به ثناء معاصريهم، وكانوا فرساناً في البلاغة وملوكا في الكلام، وخدمت هذه الأسرة الدولة العباسية منذ أول نشأتها.

وقد أولع المؤرخون على اختلاف الأزمنة بالحديث عن نكبة البرامكة، وأجهدوا قرائحهم في تفسير أسباب إيقاع الرشيد بهم، رغم أن هذا الفعل لم يكن بدعا في الدولة العباسية، فإن للمنصور وللمهدي سوابق في هذا، فقد أوقع المنصور بوزيره أبي أيوب المورياني، حيث قتله هو وأقاربه واستصفى أموالهم، لخيانة مالية اطلع عليها منهم، وأوقع المهدي بوزيريه أبي عبدالله معاوية بن يسار ويعقوب بن داود، لوشاية كانت بهما، مع نزاهة الأول وحسن سيرته، ومع ما كان للمهدي من الولوع بالثاني حتى كتب للجمهور أنه اتخذه أخاً له في الله، فكل هؤلاء سبقوا الرشيد.

ويرى المؤرخون أن طبيعة السلطة هي الاستبداد، أي يحب الملك أن يكون ذا السلطان الذي لا يشارك، والحول الذي لا يقاوم، واليد الطولى التي لا تضارعها يد، وكبار الرجال الذين يعينونهم ويقومون بتأييد سلطانهم كثير منهم لا يقف عند حد، في الانتفاع بتلك السابقة لهم، فلايزالون يرتفعون حتى تتنبه إليهم أفكار الخلفاء بما يلقيه إليهم الحاسدون والواشون من تعظيم سلطانهم على سلطانه، واشتداد وطأتهم وعلو أيديهم، فتدخل الغيرة قلوب أولئك الخلفاء، والغيرة هي بداية الشعور بعيوب أولئك الرجال، فلاتزال عيوبهم تتجسم، وهفواتهم الصغيرة تعظم، وحينئذ يرى هذا السلطان المستبد أنه لا مناص من الإيقاع بمن كان سيفه في الخطوب، إشفاقا من هذا السيف أن ينقلب عليه فينتقص منه ملكه الذي دونه كل شيء.

كان يحيى بن خالد هو القائم بأمر الرشيد أيام المهدي، وكان الرشيد يدعوه: يا أبي، وقد رضع الرشيد من أم الفضل، وأرضعت الخيزران الفضل بن يحيى، فكان يحيى هو الذي يكفله ويرعاه إلى أن شب، وكانت له اليد الطولى في إخفاق كل المساعي التي بذلت لخلع الرشيد من ولاية العهد أيام الهادي، فلما تولى الرشيد قلده الوزارة، وأعانه أبناؤه في العمل، ولم يكونوا في الاتصال بالرشيد على درجة واحدة، فكان يحيى صاحب المقام الأرفع وهو المدبر أمر المملكة، وكان جعفر هو أخف الجميع على قلب الرشيد، وكان له سلطان عظيم أيام الرشيد، فلا يرد له الرشيد قضاء أي حاجة.

وبين ليلة وضحاها وبعد كل هذا العز الذي عاش فيه يحيى البرمكي وأبناؤه، وجدهم الناس منكوبين وكانت نهايتهم عجيبة وظلت ـ ومازالت ـ مثار تعجب واستفهام حتى يومنا هذا، فجعفر الصديق الصدوق للرشيد، وجدوه مقتولا بالأنبار في آخر ليلة من محرم سنة 197هـ، بعد عودة الرشيد من حجه وكتابته عهدي ولديه الأمين والمأمون، وتم صلب جسد جعفر في بغداد على ثلاثة جسور، ثم أحرق، أما يحيى وأبناؤه الباقون فقد أودعوا السجن، وتمت مصادرة كل ما يملكون من عقار ومنقول ورقيق، وأرسل لكل الأمصار بمصادرة كل ممتلكاتهم، وأرسل المنادون ينادون بأن من آواهم البرامكة لا أمان لهم، إلا محمد بن خالد بن برمك وولده وأهله، لما ظهر للرشيد من براءة محمد مما نسب لغيره.

البعض أرجع هذا التصرف إلى أن الرشيد دفع يحيى بن عبدالله بن الحسن إلى جعفر فحبسه، ثم أطلقه دون إذن منه.

وهناك رواية أخرى أوردها الطبري على لسان العباسة أخت الرشيد، وملخصها أن الفضل بن الربيع كان من موالي العباسيين، ولم يكن للفضل في أول الخلافة شيء من نباهة الذكر، لأن الخيزران كانت تمنعه أن يوليه شيئا، وفي يوم وفاتها دعا به الرشيد وقال له: وحق المهدي إني لأهم لك بالليل بالشيء من التولية وغيرها فتمنعني أمي فأطيع أمرها، فخذ الخاتم من جعفر ـ وكان جعفر يمسك خاتم الدولة نيابة عن والده ـ وتولى الفضل بن الربيع الخاتم مع نفقات الدولة، وولايات أخرى.

وكان الربيع يحاول أن ينال من مركز البرامكة، لما كان يرى من وفرة أموالهم وقوة سلطانهم، وقام الفضل بدور كبير في تأليب الرشيد على البرامكة، وكان الفضل له عين على جعفر من خاصة خدمه، فاختار جاسوسا من خاصته يعرف منه أخباره أولا بأول، وكان هذا بداية طريق الوشايات بالبرامكة، حتى وقر في نفس الرشيد شيء، فتجسمت عيوبهم بعد ذلك أمام الرشيد، وظهرت بوادر النفور منهم، وبدأ يرتاب فيهم، ويظن فيهم كل الظنون، وبدأ يسلب منهم كل المزايا التي منحها لهم من قبل، ومن ذلك الدخول عليه بلا إذن، وذات مرة دخل يحيى بن خالد على الرشيد فقام الغلمان إليه، فقال الرشيد لمسرور الخادم: مر الغلمان ألا يقوموا ليحيى إذا دخل الدار، فدخل فلم يقم إليه أحد، ووصل الأمر أن كان إذا استسقى الشربة فلا يسقونه.

وانتقل النفور والريبة إلى آل يحيى من الرشيد أيضا، وبدا أن الرشيد كان يتحين الفرص للإيقاع بهم خاصة جعفر، يضاف إلى ذلك الدور الذي يقوم به الفضل بن الربيع في توسيع الهوة بين الطرفين، خاصة أن زبيدة زوجة الرشيد كانت متحاملة على جعفر لأنه ساعد على ولاية المأمون للعهد وجعله مناظرا لابنها الأمين، وكانت تتخوف من جعفر أن يكون سببا في وقوع القتال بين الشقيقين، إذا حانت منية الرشيد، لذلك كانت زبيدة من ناحيتها توغر قلب الرشيد على جعفر كلما حانت الفرصة.

أما القصة السائدة بين العامة عن نكبة البرامكة، فهي أن سبب ذلك العباسة أخت الرشيد، فقد كان يحبها ولا يطيق البعد عنها، وكذلك كان يحب جعفر ولا يطيق البعد عنه، ووجد مانعا شرعيا أن يجالس جعفر في وجود العباسة، فتفتق ذهنه عن حيلة وجدها غطاء شرعيا لأن يجلسا معا، وهي أن يزوجها له لكن لايدخل عليها، ولأن العباسة كانت تحب جعفر، فقد طلبت من أم جعفر أن تدخلها لمخدعه على أنها جارية، ولما دخلت إليه ذات ليلة وقضى وتره منه، قالت له ما رأيك في حيل أبناء الملوك؟ ثم كشفت نفسها، واستمرت العلاقة بينهما في الخفاء حتى أنجبت منه طفلين (!!) أرسلتهما إلى مكة مع خدم وحشم، ولما علمت زبيدة بذلك أخبرت الرشيد، فانتقم منه وقتله.

والقصة السابقة قال بها بعض المؤرخين، لكن ابن خلدون نفاها تماما، فهي غير منطقية بالمرة، وغير مقبولة شكلا ومضمونا.

أما التفسير الأقرب إلى منطق الأحداث فيربط هذه النكبة بالصراع بين القوميتين: العربية والفارسية الذي تطور بعد وفاة الرشيد إلى معارك طاحنة بين ولديه الأمين والمأمون، ويرى أصحاب هذا الرأي أن التنافس بين العرب والفرس كان موجودا منذ بداية الخلافة العباسية وأنه أخذ أشكالا متعددة من بينها تأليب الرشيد على البرامكة خوفا من تصاعد النفوذ الفارسي في بغداد.

أما عن تفاصيل قتل جعفر، فقد كانت ليلة السبت آخر المحرم سنة 187هـ، حيث أرسل الرشيد مسرور السياف ومعه حماد بن سالم في جماعة من الجند، فأحاطوا بمنزل جعفر ابن يحيى، فدخل إليه مسرور قائلا: يا أبا الفضل.. هذا الموت قد طرقك، أجب أمير المؤمنين، فقام إليه يقبل قدمه ويطلب منه أن يمكنه ليدخل إلى أهله ليوصي إليهم ويودعهم، فسمح له، فأوصى وأعتق جميع مماليكه وجاءت رسل الرشيد تستحثه، فجعلوا يقودونه حتى أتوا به المنزل الذي فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيد حمار، وأعلموا الرشيد، فأمر بضرب عنقه، فجاء السياف إلى جعفر وقال له: إن أمير المؤمنين قد أمرني أن آتيه برأسك، فقال: يا أباهاشم لعل أمير المؤمنين سكران، فإذا صحا عاتبك فعاوده، فرجع للرشيد فقال: إنه يقول لعلك مشغول، فأصر الرشيد على أن يأتيه برأسه، وإلا سيرسل من يأتيه برأسيكما معا، فرجع إلى جعفر فحز رأسه وأتى به إلى الرشيد، فألقاه بين يديه، ثم بعث الرشيد برأس جعفر وجثته فنصب الرأس عند الجسر الأعلى، وشقت الجثة لجزئين، فنصب جزء منها عند الجسر الأسفل، والجزء الثاني عند الجسر الآخر، ونودي في بغداد أن لا أمان للبرامكة، ولا لمن آواهم، إلا محمد بن يحيى بن خالد، فإنه مستثنى منهم لنصحه للخليفة.

وأورد ابن كثير في الجزء العاشر من البداية والنهاية، في أحداث سنة 187هـ، أن الرشيد كان مع جعفر في اليوم الذي قتله فيه من أوله، وكان هو وإياه راكبين في رحلة صيد، فلما كان وقت المغرب ودعه الرشيد وضمه إليه، وقال له: لولا أن الليلة ليلة خلوتي بالنساء ما فارقتك، فاذهب إلى منزلك واشرب، واطرب، وطب عيشا حتى تكون على مثل حالي، فأكون أنا وأنت في اللذة سواء، فقال جعفر: والله يا أمير المؤمنين لا أشتهي ذلك إلا وأنا معك، فقال: لا .. انصرف إلى منزلك، فلما ذهب إلى منزله حتى أرسل إليه مسرور وحدث ماحدث.

back to top