كثير من مثقفينا يطالبون بالوزير التكنوقراط، وتبعهم في هذه المطالبة كثير من الناس الذين باتوا يرددون، تكنوقراط... تكنوقراط. يرددونها ربما من باب أنها كلمة ثقيلة و«مودرن» وحتماً لا تعني إلا شيئاً جيداً، ومن يقول بها أكيد «واحد فهمان»!

Ad

حكاية التكنوقراط هذه تذكرني بنا منذ سنوات، حين صار الجميع، وبالأخص أعضاء مجلس الأمة، يتحدثون عن المعادلة الاكتوارية وأهميتها وتأثيرها على نظام التأمينات. أيامها تمنيت لو أن اختباراً مباغتاً أُجري لنوابنا لكشف مدى معرفتهم بمعنى المعادلة الاكتوارية التي كانوا يلهجون بها. لا أشك بأنها كانت ستكون مسرحية فكاهية رائعة!

عدد كبير يظن أن كلمة تكنوقراط تعني فقط أن نأتي مثلا بمهندس للنفط فنضعه على رأس وزارة النفط، أو طبيب فنضعه على رأس وزارة الصحة، هكذا «خبط لصق»، فتصبح لدينا حكومة تكنوقراط ستنجح في إدارة الأمور، لنصبح بلداً متقدماً!

لا يا سادتي، وهذا الكلام ليس من عندي وإنما بالدلائل المشاهدة، ليس هذا بكاف على الإطلاق، بل لعله ليس ضرورياً إلى حد كبير أن يكون الوزير متخصصاً من الناحية المهنية في مجال الوزارة التي سيستلم حقيبتها، فكم من وزير متخصص فشل فشلاً ذريعاً، وكم من وزير من غير المتخصصين نجح وباقتدار.

الأستاذة نورية الصبيح وزيرة التربية، على سبيل المثال، هي نموذج حي على الوزير التكنوقراط، وبالرغم من ذلك فلم نشاهد إجماعاً عليها في البرلمان السابق، وها هو أول الغيث البرلماني الجديد يأتيها على يد النائب النشط محمد هايف، حيث طالب بتغييرها والإتيان بكفاءة علمية تتناسب مع مكانة المنصب على حد قوله.

سأهمس في أذن النائب المحترم بأن المسألة ليست هكذا، فالتكنوقراطية لا تزداد مع ارتفاع مستوى الشهادة العلمية، ولن يصبح الشخص أكثر نجاحاً وملاءمة لإدارة الوزارة، حتى لو كان حاصلاً على عدة شهادات دكتوراه في التخصص العلمي.

نجاح الوزير مرتهن، أولاً وإلى حد كبير، بوجوده في ضمن تشكيلة وزارية مترابطة وقوية وذات رؤية استراتيجية وخطط واقعية. وثانياً عبر امتلاكه لصلاحيات معقولة ومنطقية لإدارة وزارته. وثالثاً، من خلال حيازته على القدارت الإدارية اللازمة. وأخيراً، إلمامه إلى حد مقبول بما يجري في هذه الوزارة، وهو الأمر الذي يمكن التحصل عليه خلال وقت بسيط.

على الجانب الآخر، يطالب بعض النواب بالوزير القوي الأمين، وهؤلاء في رأيي لا يبعدون كثيراً عمن يطالبون بالوزير التكنوقراط. الفرق أن أولئك استخدموا مصطلحاً حداثياً براقاً، وهؤلاء استخدموا مصطلحا دينياً شيئاً ما. أعتقد بأن الأمر يحتاج توضيحا أكثر بكثير من مجرد هذا الوصف المطاط المقتضب، ومن حق الناس أن تعرف ما المقصود «سياسياً» بالقوي الأمين؟

على أي حال، سيظل الخلل ليس في أشخاص الوزراء، وليس في أنه لا توجد كفاءات قادرة على تسلم المناصب الوزارية، وإنما في آلية الاختيار المتبعة. المعايير والمقاييس كلها التي يقول بها المتخصصون، وكل الحديث أعلاه، سيغدو بلا فائدة وبلا قيمة تماماً، حين نعلم أن التشكيلة الوزارية ستقوم في نهاية المطاف على أن هناك كراسي ثابتة لن يجري التفكير أصلاً بزحزحة أهلها، وعلى المحاصصة، وعلى الترضيات، وأنها، كما يدور في الصحافة، لا تتنزه عن فكرة توزير نواب الفرعيات ولا تترفع عن التفكير بإعادة وزراء التأزيم ومن طالتهم الشبهات!