في صين (ماو) كان ارتفاع ضغط الدم يعد مرضاً بورجوازياً يخاف صاحبه من أن يضبط متلبساً به، ولذلك فإنّه يضطرّ الى مواصلة العمل الشاق في أثناء نوبة الدوار التي تعلّقه بين الحياة والموت، دون أن يجرؤ على طلب إجازة قصيرة للراحة، كي لا يتّهم بتعطيل مسيرة الثورة البروليتاريّة!

Ad

وفي صين (ماو) كان الاختصاص العلمي لا يعدّ شيئاً ذا بال إذا قورن بالاختصاص الحزبي، فإذا وقع الخلاف في مسألة علمية دقيقة بين العالم والمسؤول الحزبيّ، فإنّ كلمة الأخير هي الرّاجحة، حتى لو كان هذا لا يعرف التّمييز بين الألف وكوز الذّرة!

ترسم الكاتبة الصينيّة (آنتشي مين) في سيرتها الشخصيّة (الأزاليا الحمراء) صوراً عديدة لمثل هذه الحالات في ظلّ حكم شمولي خانق كان يُحتّم على الإنسان أن يمشي فوق هوَة فاغرة، على حبال أعصابه المشدودة على الدّوام، حذر الوقوع في زلّة غير مقصودة قد تسلمه الى العدم!

تقول إنّ والدتها كانت تعمل مُدرّسةً، وقد طُلب منها، ذات يوم، أن تكتب شعاراً يقول «عشرة آلاف سنة من الحياة التي لا تنتهي للزّعيم ماو»... لكنها تحت وطأة إصابتها بضغط الدّم، وعدم السّماح لها بأخذ إجازة للرّاحة، أخطأت في كتابة الشعار، إذ نسيت- بسبب زيغ عينيها- أن تكتب كلمة (لا) المتصلة بكلمة (تنتهي).. وعندئذ تمت دعوتها الى اجتماع حزبي في اليوم التالي، لمحاكمتها عن تهمة كونها تحمل (نيّات شريرة) تقضي بمعاملتها كمجرمة!

وفي المساء تدبّرت (آنتشي) كتابة مرافعة لتستخدمها أمّها في الردّ على التّهمة الموجّهة إليها، مستفيدة من أقوال (ماو) في الكتاب الأحمر المختصر الذي تحفظه عن ظهر قلب.

وممّا جاء في هذه المرافعة: إِنّ الزعيم (ماو) قال: إننا يجب أن نسمح للنّاس بتصحيح أخطائهم، فذلك هو الطريق الوحيد لفهم الشيوعية العظيمة.. وعلى هذا فإنّ الخطأ الذي ارتكبته إنسانة بريئة ليس جريمة، ولكن منع هذه الإنسانة من تصحيح الخطأ هو الجريمة، بعبارة أخرى إنّ عدم إطاعة تعاليم (ماو) هو الجريمة.

ويبدو أنّ المسؤولين الحزبين قد تحسسّوا رؤوسهم عند سماع هذه المرافعة، إذ إنّ والدة (آنتشي) نجت بأعجوبة من مصير أسود، بعد أن قرأتها، لكنها، في مناسبة أخرى، لم تسعد بامتلاك مثل هذا الحظ.

ففي ذلك الزمن السعيد، لم يكن في طاقة الناس، أن يشتروا (ورق التواليت)، ولذلك فقد كانوا يستخدمون قصاصات ورق الصحف لهذا الغرض، وقد حكم الحظَ العاثر على هذه الأم المسكينة، وهي تحت وطأة نوبة شديدة من نوبات ضغط الدم، أن تستخدم عند دخولها الحمّام، قصاصة من جريدة كانت عليها صور (ماو)!

في هذه المرّة كانت الجريمة ثابتةَ الأركان، ولم يكن بوسع أي قوّة في الأرض أن تغفرها، وعلى هذا تمّ فصل والدة (آنتشي) من مهنة التدريس، وإرسالها للعمل الشّاق في مصنع للأحذية!

أمّا والد (آنتشي) المختص بعلوم التكنولوجيا، فقد طرد من عمله في متحف شنغهاي للعلوم الطبيعية، بعد اختلافه في الرّأي مع مسؤوله الحزبي حول أحد المخطّطات التكنولوجية، وكانت التهمة التي تمّ بموجبها طرده من العمل هي أنّه يستغل (العلوم) لمهاجمة (الحزب الشيوعي)!

كان الناس مجرد تروس في آلة الحزب العظيم، وكان عليهم أن يدوروا وفق اتجاه حركة الآلة بلا نقاش، سواء أكانوا علماء أم مدرسين أم طلبة أم أميين وسواء أكانوا أطفالا أم طاعنين في الغيبوبة.

وإذا كان على والديّ (آنتشي) أن يمارسا علوم اللغة والتكنولوجيا في مصانع الأحذية، فقد كان على (آنتشي) التي بلغت السابعة عشرة أن تترك المدرسة مرغمة لتلتحق بالمزارع الجماعية.. وكأن الصين قد أقفرت من الفلاحين!

إن أكثر من مئتي ألف شاب وشابة من كل مدينة صينية، كانوا يقتلعون من مدارسهم لكي يعملوا في المزارع الجماعية إلى أمد غير معلوم، حيث كانوا يعيشون ويعملون في تلك المزارع كالسجناء المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، وفي نهاية الأمر فإن ما ينتجونه من محصول لا يكون كافيا حتى لإطعامهم!

تقول (آنتشي): طالما تساءلنا: ماذا كنا نعني حقا عندما نهتف: الكدح بشدة.. إنماء الكثير من المحاصيل.. من أجل دعم الثورة العالمية؟!

وفي المزارع أيضا لم يكن عمل المرء شفيعه بل رضا المسؤول الحزبي، ولم يكن اختصاص ذلك المسؤول في الفلاحة شفيعه بل اختصاصه في حفظ اقوال (ماو)!

تتحدث (آنتشي) عن المسؤولة القاسية في المزرعة التي عملت فيها، فتقول إنها كانت تردد دائما: إنني لا أمانع في أن أكون خرقة تستخدم لمسح أكثر زوايا المطبخ قذارة من أجل الحزب الشيوعي.

وهذه المسؤولة (الخرقة) كانت قد وضعت نظاما للعمل أمرت فيه بعدم السماح لأحد بدخول المرحاض إلا مرتين في اليوم فقط، على ألا يمكث فيه أكثر من خمس دقائق وعقبت على ذلك قائلة: إن الحمير الكسولة فقط هي التي تحتاج الى أكثر من هذا الوقت لقضاء حاجتها.. والحمير الكسولة تستحق أن تضرب بلا رحمةّ!

تقول (آنتشي): كنت أفكر كم هو سهل على هذه المسؤولة أن تكتب عني تقريرا كاذبا تدخل بواسطته كلمات غامضة الى ملفي، حيث لا يؤذن إلا لرؤساء الحزب بالوصول إليها... كلمات يمكن أن تدفنني حية... كلمات إذا ما دخلت الملف فإنها لن تتغير أبدا، وستظل تتبعني حتى بعد الموت، فالملف هو الذي يحدد من أنا وماذا سأكون، وتلك الكلمات هي التي ستضع صورتي الوحيدة التي يعتبرها الحزب جديرة بالثقة حقا!

وكان من حق (آنتشي) أن تذعر من هذا الاحتمال، لأن خبرتها منذ الطفولة قد علمتها ألا تثق حتى بنفسها عندما يتعلق الأمر بالولاء للحزب، فبعد انتقال أسرتها من البيت القديم كانت قد تعرفت على طفلة في سنها، وقد سألتها تلك الطفلة ذات مرة عما إذا كانت ترغب في الانضمام الى الندوة التي تقيمها أسرتها لدراسة أقوال (ماو) كل ليلة بعد العشاء، فأجابتها بأن عليها أن تستأذن والدها أولا.

تقول (آنتشي): عندما استأذنت والدي قال: لا... لا إنني لا أريد ممارسة الثورة حتى في المنزل. وقد فاجأني هذا الرد وصدمني فأمضيت الليلة كلها أتساءل عما إذا كان والدي معاديا في السر للثورة، وعما إذا كان يتوجب علي أن أكتب تقريرا للسلطات عنه ام لا؟!

و(آنتشي) لم تتحرر من عبودية المزارع الجماعية، إلا بعد اختيارها لعبودية التمثيل في سينما الدعاية الحزبية الفجة، لكن الملايين من أبناء جيلها لم يقيض لهم أن يذوقوا طعم هذه العبودية المحسنة.. فها هي أختها (المزهرة) التي كانت في المرحلة المتوسطة قد تقرر أن ترسل الى مدرسة مهنية، فكان لابد من إسقاط (إقامتها) في شنغهاي هي الأخرى ( وكأنها ليست جزءا من بلدها)!

وماذا عن أختها (حجر المرجان)؟

هكذا سألت (آنتشي) أمها في إحدى زياراتها النادرة للأسرة فقالت الأم: إنها تصلي من أجل الالتحاق بأحد المصانع، ومن الصعب أن يحصل هذا، لكن إذا ظهر أنها معاقة بدنيا فإن فرصتها للبقاء في شنغهاي ستكون أفضل ولهذا فهي ترفض الذهاب الى الطبيب على الرغم من إصابتها بالديزنتاريا الحادة. إنها تحاول أن تدمر أمعاءها ليكون لها حق الادعاء بأنها معاقة.. وكثير من الشباب في الجوار يعملون الشيء نفسه. إنهم مرعوبون من فكرة الذهاب الى المزارع الجماعية.

لم تكن الأم لتلوم ابنتها على ذلك، لأنها كانت مقتنعة فعلا بأن لا سبيل لنجاة الابنة إلا بهذه الطريقة، فهذه الأم المنكودة نفسها عندما عادت من العمل ذات يوم مخطوفة اللون ومنهارة تماماً، عبرت عن سعادتها البالغة لأن الفحوص الطبية اثبتت أنها مصابة بالسل.. ذلك لأن هذا الأمر وحده وهو الذي سيمنحها الفرصة للرّاحة في البيت قليلاً، والاهتمام بشؤون أبنائها!

كل ما ذكرته (آنتشي مين) في كتابها يؤكد أن نظام صدّام الرجيم كان يطلب العلم ولو في الصين، ولو علمت (آنتشي) بسعة استيعاب ذلك النظام لعلوم صينها العظيمة، وقدرته الفائقة على تطويرها وتسمينها، لأدركت معنى تفوق التلميذ على الأستاذ، ولتفهّمت بلاغة الإيجاز التي نأت بالعراقيين عن تأليف السير الشخصية المطولة.

فلأن وصف الكارثة التي حاقت بهم كان أوسع من أفواههم وأطول من ألسنتهم، ولأن الأمة التي وجدوا أنفسهم فيها قد عقدت صفقة مطلقة مع صمم وعمى الأنانية، فإن العراقيين اختزلوا مرارتهم ويأسهم في سيرة واحدة مؤلفة من بيتين من الشعر لا أكثر... أولهما يقول:

«كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا - وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا»

وثانيهما يقول:

«لا تشكُ للناس جرحا أنت صاحبه - لا يؤلم الجرح إلا من به الألم».

وأغلب الظن أن مفردة (الناس) في البيت الثاني قد اقتضتها ضرورة الوزن، وإلا فإن التعبير الصحيح أن مفردة (الناس) في البيت الثاني قد اقتضتها ضرورة الوزن، وإلا فإن التعبير الصّحيح في الحالة العراقيّة يعني (وحوش ما قبل التّاريخ) تلك التي تتنافر أرديتها الشمولية ما بين الدّين والطّين، لكنّها تتوحّد جوهرياً في أيديولوجيا السّاطور!

* شاعر عراقي