بزوال نظام صدام حسين في العراق، وبقيام المؤسسة العسكرية الأميركية بالاعتماد على نفسها بشكل كلي ومباشر في غزو العراق واحتلاله، وقبل ذلك سقوط امبراطورية ماركس ولينين في الاتحاد السوفييتي السابق، وانتهاء مرحلة الشيوعية الدولية في التسعينيات، ثم ما بين سقوط الشيوعية وتحول امبراطوريتها إلى دويلات متنافسة متناحرة ومتزاحمة على كسب رضا الولايات المتحدة... بعد حدوث ذلك كله خطت واشنطن خطوتها الأولى في رحلة الألف ميل نحو استقلالية قرارها العسكري، وممارسته بعيداً عن حلفائها الدائمين والمستجدين وبصورة خاصة إسرائيل، وقد تميزت هذه الخطوة باحتلال أفغانستان بعد أن قالت للعالم كله: أنا ذاهبة إلى هناك، وليلحق بي مَن يريد.

Ad

بهذه الصورة تكون الولايات المتحدة قد استعارت- ولاتزال- القول العربي المأثور: «بيدي... لا بيد عمرو»، أو كما قال لي أحد المسؤولين الأميركيين الذين يعملون في مهنة جمع المعلومات قبل احتلال العراق: عندما نحتاج إلى الماء، نفضل أن نحفر الآبار بأيدينا.

هذه الأحداث خدمت السياسة الإسرائيلية في الظاهر وفي المدى القصير، لكنها في الواقع جاءت نتيجتها، أو ربما ستأتي في وقت قصير، ضد هذه المصالح. وقد بدأت التباشير تظهر على السطح، مما دفع المؤسسة الصهيونية إلى إبداء قلقها الشديد من هذه الظاهرة في مناسبات عدة. سبب القلق الاسرائيلي أن الولايات المتحدة لم تعد في أمسّ الحاجة إلى إسرائيل، كما كانت في السابق، لاستخدامها كعصا غليظة، بعد أن شهرت هي نفسها عصاها وبدأت باستخدامها ضدّ من تشاء وفي أي وقت تشاء من دون أي رادع قانوني أو أخلاقي، ومن دون أن تخل بالتوازن الدولي، فالبعبع السوفييتي قد زال وترك المسرح كله للولايات المتحدة الأميركية. وواشنطن كانت تستخدم إسرائيل ستاراً، ولم تعد بحاجة إلى مثل هذا الستار، فالدول، كبيرها وصغيرها كتلة متراصة من المصالح الخاصة، وتخضع مثل التجارة لمبدأ الربح والخسارة الذي يخضع بدوره لقانون العرض والطلب والحاجة.

* تعدد الأبناء

انطلاقاً من ذلك فإن الحاجة الأميركية إلى استخدام إسرائيل قد تقلص بشكل ملحوظ بعد أن أخذت الولايات المتحدة الأمور العسكرية والسياسية بيدها. وما يربط الأميركيون بالإسرائيليين كثيرا من المصالح وقليلا من العاطفة. والقلق الإسرائيلي في هذا المجال مشروع، فتل أبيب تخشى أن يأتي اليوم الذي تتغلب فيه المصالح على ما تبقى من العواطف. وعندها تفقد إسرائيل ميزة «الابن الوحيد والشرعي» للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. هذه الميزة التي جعلت من إسرائيل دولة عظمى في المنطقة قائمة على أساس حماية المصالح الأميركية، وبذلك تنتهي مقولة إن تل أبيب هي التي ترسم سياسة واشنطن الشرق أوسطية. وهذا هو مبعث القلق وقلة النوم لدى صنّاع القرارات الاستراتيجية في الدولة الصهيونية. وقد ازداد هذا القلق وسهر الليالي عندما ظهرت بوادر استراتيجية أميركا الجديدة، التي لا علاقة لها بتطلعات حزبية داخلية، بعزم واشنطن على رسم سياستها الخارجية المستقبلية طبقاً لمصالحها الخاصة فقط من دون أي اعتبار عاطفي لهذا الحليف أو ذاك، فدور إسرائيل كابن شرعي ووحيد قد قارب على الانتهاء، وصار لواشنطن أبناء عرب كثر. وكأي «أب صالح»، فهي مضطرة إلى التوازن بين مصالح أبنائها بلا تفريق أو تمييز.

وحتى لا نغرق في بحر التفاؤل السرابي، أسارع إلى القول إن هذا الكلام لا يعني في أي حال من الأحوال أن الولايات المتحدة في طريقها إلى التخلي عن ابنها البكر، إسرائيل، اليوم أو غداً أو بعد غد. بل يعني ان أميركا في طريقها إلى إجراء عملية توازن بين «أبنائها» في المنطقة، لأن ذلك يحفظ لها مصالحها ومكانتها فترة طويلة من الزمن. كذلك يعني أن مرحلة التفرد الإسرائيلي بالحماية الأميركية قد ولّت وربما إلى أمد بعيد. وفي المنطق الإسرائيلي فإن حدوث ذلك هو الكارثة بعينها لأنه يضع حدا لطموحها في إقامة دولة ذات نفوذ لا يقهر من النيل إلى الفرات، وبالتالي يحولها إلى دولة عادية من دول المنطقة التي يجب أن تعيش ضمن إطار قانون المصالح الأميركية.

*حاملة الطائرات الغاضبة

ولإعطاء مزيد من المصداقية لهذه النظرة في العمق فمن المفيد العودة إلى «أرشيف» الماضي لنتبين كيف كانت إسرائيل تفرض شروطها على أميركا بلغة «استكبارية» حسب التعبير الإيراني، كذلك إظهار الصورة الحقيقية التقليدية التي رسمها شكسبير للمرابي اليهودي «شايلوك» في روايته المعروفة جداً «تاجر البندقية».

في عام 1982، وخلال فترة حكم الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل، جرت محادثات لبنانية-إسرائيلية بحضور أميركي، لوضع صيغة اتفاق سلام منفرد بين البلدين عُرِفَ في ما بعد باتفاق «17 آيار»، الذي أجهضته سورية- حافظ الأسد، لأنه يستثني سورية ويجعل الجولان المحتل في قبضة إسرائيل إلى الأبد. المصادفة مع حسن الحظ وضعت بعض وثائق هذه الاجتماعات بين يدي لقراءتها. ما لفت نظري في هذه الوثائق محضر اجتماع بين عسكريين إسرائيليين ولبنانيين وأميركيين لوضع الصيغة العسكرية والأمنية الملحقة بالاتفاق السياسي. كان للجانب الإسرائيلي شروط المنتصر بشكل دفع الجانب اللبناني إلى رفضه، وتدخل الجانب الأميركي لدعم المطالب اللبنانية المحقة. ودار بين الجنرال الإسرائيلي والجنرال الأميركي حوار قاسي اللهجة انقل جزءاً قصيراً منه تلبية للوعد الذي قطعته بألا انشر المحضر بنصوصه بل بروحيته. وصل النقاش الحادّ إلى درجة دفعت الجنرال الأميركي إلى التهديد بوقف المساعدات الأميركية عن إسرائيل. وهنا استشاط الجنرال الإسرائيلي غيظاً وغضباً إلى درجة فقدان الأعصاب وقال لنظيره الأميركي: تذكروننا دائماً بمساعداتكم وتنسون ما نقدمه إليكم في المقابل. إن مساعداتكم هي عبارة عن زجاجة «مخلل». اسمعني جيداً فكم تنفقون على واحدة من حاملات طائراتكم الموجودة في المتوسط؟ 500 مليون دولار سنوياً لصيانتها من أمواج البحر. ونحن في إسرائيل نقدم إليكم حاملة طائرات برية طولها 20 ألف كيلو متر مربع. وماذا تعطونا سنوياً مقابل ذلك؟ عدة مليارات من الدولارات لا تفي بخدمة حاملة طائرات واحدة، ثمّ تأتون بين الفينة والأخرى لتمارسوا علينا شروطكم. إنكم تعرفون علم الحساب لكنكم لا تمارسونه معنا. في الحقيقة وفي الواقع فإن إسرائيل تقدم إليكم خدمات أكثر بكثير من المبالغ التافهة التي تسمونها مساعدات.

الجنرال اللبناني الذي حضر هذا الاجتماع كتب في الوثيقة التي قدمها في ما بعد إلى رؤسائه أن ردّ الجنرال الأميركي على نظيره الإسرائيلي كان الانسحاب من الجلسة بغضب. ولحسن الحظ أيضاً، كنت ومازالت على علاقة صداقة طيبة مع الجنرال اللبناني الذي تقاعد منذ سنوات عدة. وقد سألته لتأكيد ما حدث، فأكده مع طلب شخصي بألا أذكر اسمه.

*خطر ازدواج الهوية

هكذا كانت إسرائيل تتعامل مع أميركا في الثمانينيات وقبل حدوث المتغيرات المقلقة لتل أبيب، لكن كيف تتعامل أميركا مع إسرائيل اليوم؟

أحد الأميركيين العاملين في حقل جمع معلومات (طلب عدم ذكر اسمه)، زار بيروت في الأسبوع الماضي قادماً من العراق عبر الأردن، حول مائدة عشاء قال كلاماً ذا مدلول استراتيجي:

«هناك، في واشنطن شبه قناعة بأن السياسة الإسرائيلية التوسعية اصبحت تشكل عبئاً ضاغطاً على المصالح الأميركية في المنطقة، وبصورة خاصة في هذا الظرف الحساس جداً الذي تمر به الولايات المتحدة على الصعد المختلفة... إننا مؤمنون إيماناً عميقاً بأن الاستقرار في المنطقة لا يمكن أن يأتي إلا بعد حلّ القضية الفلسطينية... أمام إسرائيل فرصة ذهبية لإقامة سلام دائم، وواشنطن لن تترك هذه الفرصة تذهب مع رياح الحرب... العقبة الكبرى أمام تحقيق مشروع السلام وإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة هي المستوطنون اليهود الذين يرفضون فكرة التخلي عن الأرض وعن الحلم الصهيوني... الأكثرية المطلقة من هؤلاء هم مواطنون أميركيون يمارسون ازدواجية الهوية ولهم مكانتهم في المجالات... واشنطن تقترب من القناعة بضرورة سن قوانين تمنع ازدواجية الهوية أي أن تكون أميركيا وإسرائيلياً في الوقت نفسه... إنها عملية معقدة لكنها، في نظر واشنطن، الطريق الوحيد لإزالة عقبة تأثير المستوطنين على القرار الإسرائيلي في ما يتعلق بمشروع السلام... آن الأوان لتكون واشنطن أكثر حزماً مع صنّاع القرار الإسرائيلي لأن البديل هو الفوضى. والفوضى هي العدو الرئيس للولايات المتحدة والحليف الأقوى للتنظيمات الأصولية الإرهابية وبالاخص تنظيم «القاعدة»... في العراق وفي افغانستان تعلمنا دروساً كنّا نجهلها ولن نعيد الأخطاء التي ارتكبناها... على إسرائيل ان تدرك الحقيقة، وهي أن للمنطقة قائداً واحداً (one boss) ولن نتخلى عن لعب الدور القيادي مهما كانت النتائج... سيسمع العالم قريباً تغييراً ملموساً في اللهجة التي ستمارسها واشنطن في حوارها مع تل أبيب».

بقي أن اذكر أن هذا الصديق الأميركي الذي يعمل في جمع المعلومات ديمقراطي (نسبة إلى الحزب) الهوية والهوى.

*كاتب لبناني