يقال... ولا أدري إن كان ما يقال، حقيقة أم أسطورة، إن الإنسان في سالف العصر والأوان، كان عملاقاً، يتراوح طوله بين الأربعين والخمسين متراً ، أي أنه كان عمارة من اثني عشر طابقا ، تسير على قدمين، وأنه كان يتمشى ويتسكع بين القارات، متنقلاً من قارة إلى أخرى في بضع ساعات، ورغم ضخامته وقوته وطوله الفارع، فإنه كان «خبلاً» من الطراز الأول، فقد كان يرتعب من صوت الرعد، ويرتجف من وميض البرق، ويحسب أن أنين الريح صوتاً للأرواح الشريرة الغاضبة، ويخر ساجداً للشمس يظنها إله الآلهة!

Ad

وكان- رحمه الله- يمسك على الدوام بـ«عجرة» ضخمة ومدببة الأطراف، ما إن يخطر حيوان بجانبه حتي «يكفخه» بها، فيسقط الحيوان المسكين مترنحاً، بعد أن أصيب بارتجاج في المخ «إن وجد»، وقد كان عملاقنا العزيز «حمشاً» في كهفه، ولديه طريقة مميزة في تأديب زوجته الناشز ، حيث يقوم بـ«سحلها» من شعرها المنفوش متوجهاً بها إلى «كهف العمر» الذي أتم بناءه بنفسه، ودونما حاجة إلى قرض من بنك التسليف، حيث يستكمل تأديبها بضربات عدة «غير مبرحة» من «عجرته» المحترمة، لتحترمه بعدها «المدام» آخر احترام!

ثم بمرور السنين وتوالي القرون ، صغر هذا الإنسان العملاق وتضاءل حجمه وقصر طوله تدريجياً، وأصبح بحالته التي هو عليها اليوم، وقد تطور فكرياً وأخلاقياً، وأصبح أكثر «تكانة» ورزانة، وتخلى عن سلاح «العجرة»، واستبدلها بالمسدسات والقنابل والأحزمة الناسفة، وأصبح أكثر «ذرابة» ولطافة وأناقة في تعامله مع المرأة، وتوقف تماماً عن «سحلها» من شعرها، بل أصبحت هي التي تسحبه من «أذنه» في كثير من الأحيان!

والآن، كلما ذهبت لأتسوق من الجمعية التعاونية، ونظرت إلى صناديق الفاكهة، العنب والكرز والمشمش والخوخ والليمون، تذكرت ذلك الإنسان العملاق الذي تحول بمرور الزمن إلى قزم، فقد أصاب صناديق- هكذا يدعونها زوراً وبهتاناً- الفاكهة في السنين الأخيرة، ما أصابه من تقزم وتضاؤل وصغر، حتى أصبح حجمها اليوم بحجم كف اليد أو أصغر ، ووزنها أقل من نصف كيلو جرام واحد، مع أن سعرها قد تضاعف مرتين أو ثلاثاً، والأمر نفسه ينطبق على كثير من السلع الغذائية الأخرى، فقد ظهر الحليب «الجونيور»، و«بطل» الماء المعدني حجم «الإستكانه»، والكولا «الصغير»، و«الميني» آيس كريم، أما المعلبات، فقد أصبحت بنصف حجمها السابق وبضعف سعرها!

وحتى في المطاعم، أصبح صحن الكباب أقل من حيث العدد، وأصغر من حيث الحجم، والحمص والمتبل كذلك، رغم أن أسعارها جميعها قد زادت، وبعد أن كنا نأكل الدجاجة «الأم»، أصبحنا نأكل «بنت الديك»، وبعد أن كنا نأكل الشاورما «الراهية» صرنا نأكل «بنت الشاورما». فـ«سندويتشان» من الشاورما هذه الأيام، لا تعادلان «سندويتشة» واحدة من سندويتشات زمان، والغريب أن سعرها قد ارتفع أيضاً، مع أن ثلاثة أرباعها بصل وطماط وخضرة!

إذن فكل شيء يصغر حجمه ويرتفع سعره هذه الأيام، وما كنت تشتريه بعشرة دنانير لا تستطيع شراءه اليوم بثلاثين، وجيوب وقلوب البسطاء من مواطنين ومقيمين تئن وتتوجع، وجشع التجار لا ينتهي ولا حد له، فضمائرهم ماتت ولا حسيب ولا رقيب عليهم، وحكوماتنا السابقة استحقت وبكل جدارة جائزة «الجمهور المثالي»، فقد كانوا خير متفرجين، يشجعون «اللعبة الحلوة» ويبتسمون ويصفقون على استحياء لـ«النقلات البينية الجميلة» بين التجار واتحاد الجمعيات ومجالس إداراتها ووزارة التجارة، الذين استحقوا بدورهم أن يتقاسموا جميعا جائزة «اللعب النظيف»، وحتى الآن يتقدمون علينا 10- صفر ، ولازال هناك وقت إضافي!

والارتفاع الكبير في أسعار النفط لم ينفعنا في شيء، فالدولة هي التي تزداد غنى، يوماً بعد يوم، أما نحن فنزداد فقراً ساعة بعد ساعة، وزيادة الرواتب «النكتة» لم تنفع كثيراً، لأن طمع وجشع التجار كان أقوى وأكبر وأعنف من أي زيادة، ولم يبق لنا كمواطنين ومقيمين إلا حلين لا ثالث لهما، فإما أن نعاود مسيرة «التقزم» التي كنا قد توقفنا عنها، فلا تتجاوز أطوالنا 30 سم، ليكتفي الفرد منا حينها بأكل تفاحة أو برتقالة واحدة يومياً، وبذلك يضمن أن يكفيه راتبه حتى آخر الشهر ، وإما أن «نتعملق» من جديد، فنأكل كل ما في الجمعيات من مواد غذائية، ونلتهم بعدها أعضاء مجالسها واتحاد جمعياتها، و«نحلي» بالتجار الجشعين!