أكتب هذه المقالة، والعدوان الإسرائيلي الوحشي على الشعب الفلسطيني في غزة دخل يومه الرابع عشر، وهو يحصد أرواح الأبرياء وينشر الفزع والدمار، لقد وصلت حصيلة القتلى حتى اليوم إلى حوالي 800 شهيد فلسطيني، نصفهم من الأطفال والنساء، غير الآلاف من الجرحى، وتشريد الآلاف من الأسر الفلسطينية المنكوبة والخسائر التدميرية التي تُقدر بأكثر من مليار دولار.

Ad

لقد استطاع الوفد الوزاري العربي في نيويورك وبعد جهود ماراثونية ومفاوضات شاقة مع الأطراف الدولية كافة من استصدار قرار مجلس الأمن رقم (1860) بوقف فوري ودائم وملزم لإطلاق النار، وإدانة العنف والأعمال العدوانية ضد المدنيين، وانسحاب القوات الإسرائيلية، وفتح المعابر وفق اتفاقية 2005، وضمان تزويد غزة بالمساعدات الإنسانية، والترحيب بالمبادرة المصرية والمبادرات الدولية كافة، وتأييد جهود المصالحة الوطنية الفلسطينية.

لقد صمم الوفد العربي وأصر على عدم مغادرة نيويورك مهما كانت المناورات والمراوغات والإحباطات حتى يتبنى مجلس الأمن القرار الأمني بوقف العدوان الإسرائيلي وإنقاذ الشعب الفلسطيني من أهوال هذه الحرب المجنونة وقد نجحوا أخيراً، وهذا يسجل لهم تاريخياً، لكن المهمة الأصعب الآن في تنفيذ هذا القرار ميدانياً، لأن المعروف أن إسرائيل ستماطل وستراوغ طويلاً في عدم الالتزام بالقرار الدولي وستتذرع بأن «حماس» قد أعلنت بأنها غير معنية بهذا القرار، ستواصل إسرائيل عدوانها وسيسقط المزيد من القتلى والجرحى إلى أن ترغم إسرائيل إرغاماً على وقف عدوانها الوحشي على المدنيين، ومن هنا يجب استمرار الجهود العربية والدولية في الضغط على إسرائيل، خصوصا أن القرار الدولي- اليوم- في مصلحة الفلسطينين والعرب.

نعم التكاتف العربي وتنسيق الجهود قد أثمرا في تبني مجلس الأمن لهذا القرار الصعب، الذي كانت الأجواء المحيطة والمخيِّمة كلها في أروقة الأمم المتحدة لا تبشر بصدوره، بل كانت تسوِّفه وتؤجله بينما آلة الحرب الإسرائيلية تواصل مجازرها ضد السكان الأبرياء وتُسقط في كل يوم المزيد من الأطفال والنساء والمدنيين، تحية لهذا الجهد العربي المشترك الذي تمكن من إنجاز هذا القرار بالصبر والمثابرة ومواصلة الجهود في إقناع أعضاء مجلس الأمن الـ(15) بتحمل مسؤلياتهم الدولية ، لقد كان من الممكن أن تحبط كل تلك الجهود وتصطدم بالفيتو الأميركي، لكن الضغط العربي استطاع تحييد الموقف الأميركي عبر عدة تكتيكات عربية ناجحة.

لقد كان من العوامل الرئيسية التي ساندت وأسهمت في نجاح العمل العربي المشترك، صمود الشعب الفلسطيني أمام الآلة الإسرائيلية الرهيبة، هذا الصمود الجبار هو الذي أجبر المجتمع الدولي على اتخاذ مثل هذا القرار بالرغم من ممانعة الطرفين الرئيسين ورفضهما: إسرائيل و»حماس»، نعم لولا هذا الصمود البطولي والتضحيات الجسيمة لهذا الشعب الذي لا يملك من السلاح إلا إرادته العظيمة في المقاومة والثبات وإيمانه الراسخ بحقه في أن يعيش ويحيا آمناً لما استيقظ الضمير الدولي، خصوصا أن التضليل الإعلامي الإسرائيلي وغيره من الوسائل الإعلامية المساندة والمتعاطفه معه، قد نجح في تصوير العدوان الإسرائيلي بأنه بمنزلة الدفاع عن النفس ضد صواريخ «حماس» والفصائل الجهادية الفلسطينية على البلدات الإسرائيلية، لقد كان هذا التضليل الإعلامي من ناحية وكذلك إطلاق بعض التصريحات، «غير المسؤولة» من بعض قادة «حماس» عبر الفضائيات من أسباب تأخر يقظة ضمير المجتمع الدولي للقيام بمسؤولياته الأخلاقية تجاه هذا الشعب الأعزل.

والآن يجب تكاتف الجهود وتوجيهها نحو ضرورة احترام القرار الدولي والمسارعة إلى حماية الشعب الفلسطيني في غزة في أسرع وقت، وأعتقد أن الدور المصري المؤيَّد بالجهد العربي عليه عبء كبير، وفي تصوري أن مصر بمكانتها وثقلها وبطبيعة علاقاتها بإسرائيل من جهة وبأميركا من جهة أخرى، قادرة على كبح جماح الجنون الإسرائيلي، وعلى مصر- الآن- أن تكثف جهودها- والقرار الدولي معها مؤيد لجهودها و دورها – في الضغط على الطرفين: إسرائيل و«حماس»، في إنهاء المذبحة وإنقاذ الشعب الفلسطيني، وضمان انسحاب القوات الإسرائيلي وفق جدول زمني يتوقف فيه إطلاق النار من الأطراف كافة.

على مصر ألا تهتم بالأصوات التي تتشكك في جهودها، فهي أكبر من أن تتأثر بها، كما أن على مصر ألا تعبأ بالتصريحات الصادرة من بعض المتحدثين باسم «حماس» بأنها «غير معنية بالقرار الدولي بحجة عدم التشاور معها» فهذه تصريحات إعلامية تكتيكية، نعم «حماس» معنية بالقرار الدولي، والشعب الفلسطيني في غزة معني بالقرار الدولي، وإنقاذ الشعب الفلسطيني مسؤولية عربية وإسلامية بالدرجة الأولى وليست مسؤولية «حماس» والفصائل الجهادية- وحدها- نعم لترفض «حماس» القرار ولتشكك في المبادرة المصرية، هذا شأنها، لكن التاريخ سيحاسبنا غداً، سيحاسب العرب والمسلمين- جميعاً- ما لم نسارع إلى حماية الشعب الفلسطيني.

ليقول خالد مشعل وهو في مكانه الآمن «إن الحركة لم تخسر إلا قليلاً»، وليقل هنية إن حركته لن تتراجع حتى لو «أبادت إسرائيل غزة» تلك التصريحات لا تعفينا من المسؤولية. فإذا كانت الحركة لم تخسر كثيراً، فإن الشعب الفلسطيني في غزة خسر كثيراً، وإذا كانت الحركة لن تتراجع ولو أبيد الشعب الفلسطيني فنحن الذين علينا أن نحول دون هذه الإبادة لأن تلك مسؤولياتنا وليست مسؤولية «حماس» وحدها، إنقاذ روح عربية بريئة واحدة مسؤولية عربية وإسلامية بغض النظر عن السلطة الحاكمة والمسيطرة فما بالك بآلاف الأبرياء؟

لقد سعى العرب إلى استصدار القرار الدولي وقد نجحوا، وهذا النجاح أعاد الثقة العربية المهزوزة إلى دور مجلس الأمن كآلية دولية للحفاظ على الاستقرار والسلام وحماية الآمنين، ولكن التطبيق الكامل لهذا القرار وإرغام إسرائيل على وقف عدوانها، هما من مسؤولياتنا.

لقد سقط في هذه الحرب رهانات كثيرة وتبددت أوهام كبيرة، فلن تستطيع المقاومة- والمقاومة حق مشروع ولكنها مسؤولية- مهما أطلقت من صواريخ أو فجرت انتحاريين، من تغيير معادلة القوة أو قلب الطاولة إذا كان الثمن الباهظ سيدفعه الأبرياء الذين لا ذنب لهم، ومن هنا فإن المراهنة على تصاعد عدد القتلى والجرحى، مراهنة غير مقبولة اليوم، ومن ثم لن تجد فصائل المقاومة وعلى رأسها «حماس»، خياراً أفضل من المصالحة الوطنية ووحدة الصف الفلسطيني التي هي الضمان والأمان لها دون التعويل على الضمان الخارجي. ومن ناحية أخرى، فإن إسرائيل واهمة إذا ظنت أنها بآلتها الحربية تستطيع أن تقضي على «حماس» والفصائل الجهادية بدليل أن الصواريخ لازلت ناشطة تصيب بلداتها حتى اليوم الرابع عشر من بدء عدوانها، ولن تستطيع إسرائيل وحتى اليوم من وقف الصواريخ، الأمر الذي سيجعل الناخب الإسرائيلي غداً يسائل القيادات الإسرائيلية السياسية والعسكرية: لماذا هذه الحرب التي كبدتنا الخسائر وأحرجتنا أمام العالم؟

ختاماً: هذا يوم حقق فيه العرب نصراً سياسياً دبلوماسياً مؤزراً في المحفل الدولي، فتحية للعمل العربي المشترك- وتحية وتقدير للصمود البطولي للشعب الفلسطيني في غزة، كان الله في عونهم وعوّض صمودهم خيراً ورحم شهداءهم .

*كاتب قطري