لا تعتبر مسألة كركوك جديدة في التاريخ السياسي العراقي، وبقدر كونها نقطة احتكاك حساسة بين التوجهات القومية العربية والكردية والتركمانية، فقد كانت منطقة تعايش وتسامح ومشترك إنساني، عكست روح التآخي الحقيقية العفوية والبعيدة عن «السياسات» الضيقة والإغراضية التي أرادت توظيفها لاحقاً.

Ad

وكان نموذج كركوك كمدينة ومحافظة فيما بعد مغرياً ومصدر غنى، فهو يميل إلى التنوع العراقي: القومي والديني واللغوي والسياسي والفكري والاجتماعي، كما أنه يمتاز بالتفاعل والتواصل الحضاري والتعددية، لاسيما في ظل تعاون المكوّنات المختلفة التي تتشكل منها اللوحة الفسيفسائية الملوّنة التي تمثل وجه العراق المتحد الموحد. فسكان كركوك مؤلفون من العرب والكرد والتركمان والآشوريين، وإن أخذ كل فريق يدّعي اليوم بأنه يمثل الأغلبية، كما تتعايش الأديان والمذاهب فيها، فالمسلمون يشكلون أغلبية السكان وبينهم سنة وشيعة، والمسيحيون يؤلفون أقلية مؤثرة اجتماعياً وثقافياً، ويوجد في المدينة منذ عقود من الزمان منتديات وتجمعات ثقافية واجتماعية تمثلهم بغض النظر عن الانحدار القومي أو الديني.

ولعل أفضل من صوّر مدينة كركوك قبل اندلاع نار التعصب الاثني ومحاولات التسييس هو الكاتب والروائي المبدع فاضل العزاوي في كتابه: جيل الستينات-الروح الحيّة، وبهذا القدر أو ذاك فقد كان ما أطلق عليهم جماعة كركوك لاحقاً: مؤيد الراوي، سركون بولس، أنور الغساني وغيرهم، يعبّرون عن هذه النزعة التعايشية الموحدة.

لكن السياسة قلبت الكثير من مظاهر التعايش والتآخي إلى بؤر للتوتر والشك، حيث أضحت كركوك محط احتدام وتعارض سياسي وقومي وهو ما حصل إبان أحداث كركوك المأسوية عام 1959، وفي ما بعد يوم تم الاتفاق على بيان 11مارس عام 1970 بين الحكومة العراقية والحركة الكردية بقيادة البارزاني مصطفى، فقد ظلت كركوك خارج دائرة الاتفاق ومصدر قلق، وهكذا لم تحسم، بل ظلّت مؤجلة في جميع الاتفاقات الحكومية-الكردية، حتى مجيء الاحتلال عام 2003 وسقوط النظام السابق.

وإذا كانت الفترة الفاصلة بين عام 1970 و2003 قد شهدت محاولات لتغيير الواقع الديموغرافي والتركيب السكاني لمحافظة كركوك، التي أطلق عليها اسم «محافظة التأميم»، عبر إجراءات وقرارات حكومية، بل قوانين شملت منح سكان المحافظة دون غيرهم، «الحق» في تغيير قوميتهم إلى العربية بافتراض وجود أخطاء يرغبون في تصحيحها، وهو الأمر الذي انحصر بذلك دون سواه، فلم يعط مثل هذا الحق لتغيير القومية إلى الكردية أو التركمانية، كما شهدت تلك الفترة عمليات إجلاء سكاني من جهة، وتشجيع بعض عرب العراق على الانتقال والعيش والسكن في كركوك مقابل امتيازات معروفة، مالية ووظيفية.

ولذلك عندما نوقشت مسألة كركوك في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية 2004، جرى تثبيت نص في المادة 58 لحلها أو للاعتقاد بإمكان حلّها، وهي المادة التي تم ترحيلها إلى الدستور الدائم الذي تم الاستفتاء عليه في 15أكتوبر عام 2005، وأجريت الانتخابات على أساسه، وذلك في نص المادة 140 التي يجري الصراع والجدل بشأنها، بل يحتدم الخلاف والتناحر في ما يتعلق بتطبيقها، وتكثر التفسيرات والتأويلات بخصوصها، حتى أن ممثل الأمم المتحدة والمقترحات التي تقدّم بها كان موضع شك وريبة، وربما من جميع الأطراف، التي يريد كل طرف الإقرار له بالسيادة على كركوك لدرجة اعتبر المبعوث الدولي غير «محايد» تصريحاً أو تلميحاً!

فالفريق الكردي يتشبث بالمادة 140 وبكردستانية كركوك، التي قال عنها الرئيس الطالباني في إحدى تصريحاته إنها «قدس الأقداس» في إشارة إلى قدسية مدينة «القدس» لدى العرب، ويتمسك بها البارزاني رئيس إقليم كردستان، حين يصرّ على أنه في حال عدم حل القضية طبقاً للمادة 140، فسيكون لنا خيار آخر، وهو لا يستبعد الحسم العسكري.

وحسب المادة 140 فلا بدّ من تطبيع الأوضاع وتعويض المتضررين وإعادتهم إلى مناطقهم وتشجيع من يريد العودة إلى منطقته الأصلية من الذين تم نقلهم من وسط وجنوب العراق إلى كركوك في السبعينيات وما بعدها، ومن ثم استفتاء سكان كركوك في ما بعد. وفي خطوة تلويحية صوّت مجلس محافظة كركوك، الذي يطعن به عربها وتركمانها، على قرار انضمام كركوك إلى الإقليم الكردستاني، في حين يعتبر الكثير منهم أن تشكيل مجلس المحافظة كان إكراهياً وعملاً أدى إلى اختلال موازين القوى، فضلاً عن نقل بعض الأكراد إلى السكن في كركوك بهدف تغيير معالمها وطبيعتها الديموغرافية، في خطوة مضادة للخطوة التي اتخذتها الحكومة العراقية سابقاً، لاسيما بالقانون الصادر عن مجلس قيادة الثورة في 6 سبتمبر 2001 بشأن تغيير القومية إلى العربية.

ويتخوّف التركمان ومن ورائهم تركيا ليس من محاولة ضم كركوك إلى الإقليم الكردستاني فحسب، بل من التجربة الفيدرالية الكردية بشكل عام، لاسيما أنهم يعاملون باعتبارهم أقلية الأقلية كما يقولون، كما يبدي عرب كركوك تحديداً مخاوف شديدة من ضم كركوك إلى إقليم كردستان، لاسيما الوافدين منهم، ويعتبرون خطوة مثل هذه ستؤدي إلى الانفصال عن الوطن العراقي، وهي محاولة لاقتطاع أراضي كركوك تمهيداً لانضمامها إلى الدولة الكردية القادمة، وذلك بقضم تدريجي، وهو ما أثير بشأن مناطق خانقين وزرباطية وبدرة وجصان وسنجار وقرى في مناطق سهل نينوى وغيرها.

وبغض النظر عن مخاوف البعض فإن الوضع في كركوك أصبح لا يطاق، حيث الاستقطاب القومي والديني على أشده، وحيث التفجيرات والاتهامات المتبادلة، وحيث الاستمرار في ظاهرة الميليشيات، فضلاً عن التداخل الخارجي، سواء الأميركي أو الإيراني أو التركي، الأمر الذي لا يمكن حلّه بالسهولة التي يعتقدها البعض، سلمياً أو عنفياً، سواء العودة إلى المادة 140 أو من دونها، في حين يعتبر البعض أن هذه المادة انتهى مفعولها ولم يتم تمديد العمل بموجبها، فهي مرهونة بزمن، وهذا الأمر قد وصل إلى طريق مسدود، وهو بحاجة إلى جهود مكثفة سياسية وبمساعدة الأمم المتحدة، وهنا تبرز أربعة خيارات، كلّها تستوجب استبعاد الحل العسكري والاتفاق على الحوار السلمي وتوفير إرادة سياسية وثقة متبادلة وتنازلات متقابلة، تأخذ إرادة السكان بنظر الاعتبار واحترام حقوق الإنسان وتحرص على التعايش والتآخي أياً كانت نتائج هذه الحلول:

الخيار الأول: «إدارة مشتركة» للمدينة من العرب والكرد والتركمان ومجلس متكافئ وحقوق متساوية، مع تأكيد على احترام حقوق الإنسان كاملة وغير منقوصة، ويمكن إعادة المتضررين وتشجيع النازحين على العودة إلى أماكنهم، ولكن دون إكراه أحد، إلاّ إذا كان قد انتهك حقوق الغير، وهذا الخيار لا بد أن يأخذ بنظر الاعتبار موقع الآشوريين ومستقبل وجودهم في كركوك.

الخيار الثاني: أن تكون المحافظة إقليماً مستقلاً، وبالتالي يمكن إجراء انتخابات فيها على أساس كونها «إقليما» ويمكن أن تكون الانتخابات على أساس سياسي لاقومي أو ديني أو غير ذلك، وقد يُصار استثناءً إلى رفض الطابع الآحادي للقوائم، كي يتم تعويم الانقسام الحاصل بافتراض قوائم مشتركة، وبالتالي تعزيز الصبغة الوطنية الغالبة الجامعة، على حساب الهويات الجزئية، المصغرة: الإثنية أو الدينية أو الطائفية.

الخيار الثالث: اعتبارها جزءًا من إقليم كردستان (لاسيما إذا صوت البرلمان على ذلك- كتلة الائتلاف «الشيعي» وكتلة التحالف الكردستاني) مع وضع خاص تتمتع به بحكم ذاتي وبإدارة مشتركة، وتعهد في إطار النظام الفيدرالي باحترام مكوناتها وعدم تغيير واقعها الديموغرافي والحفاظ على تعايشها وتنوّعها وتعدديتها، وإعطائها لاحقاً حق الانسحاب من الإقليم إذا رغبت بذلك وعلى أساس إرادتها الحرة.

الخيار الرابع: أن تتحد كركوك مع محافظة صلاح الدين لتشكيل إقليم واحد، وبذلك يمكن تطويق طابق الانقسام الحاد في كركوك، لاسيما بضمها إلى مناطق أخرى، وتأكيد احترام حقوق الإنسان. ومثل هذا الخيار قد يكون رد فعل على الخيار الثالث لاسيما الإصرار الكردي، وهو يتطلب أغلبية في مجلس المحافظة من العرب والتركمان.

ليس المهم أن تكون كركوك كردستانية أو أن تكون قومية عربية أو أغلبية تركمانية، لكن المهم هو ألا يجبر سكانها مرّة أخرى على تغيير هوياتهم لأي سبب كان، أو أن يكره الناس على إخفاء انتماءاتهم القومية أو الدينية أو السياسية، وألا يجبر أحد على الرحيل القسري ممن استجابت عائلته للانتقال إلى كركوك للحصول على امتيازات، لم يكن له علاقة بها، حين ولد ودرس وترعرع وعمل وتزوج وأنجب في كركوك، أو أن يمنع أحد من الحصول على حقوقه المفقودة في كركوك عندما تم ترحيله قسرياً، بل لا بدّ من تعويضه عن الغبن والإجحاف الذي لحقه!

والمهم هو تأمين عيش مشترك وحقوق إنسانية متساوية والحق في التعددية والاختلاف، وأن تكون كركوك أياً كانت إدارتها في هذا الإقليم أو ذاك، جزءا من الوطن العراقي، المتعدد المشارب والمنابع والقوميات والأديان والطوائف، والاتجاهات والسياسات والمناهج، لاسيما باحترام حقوق الإنسان.

* باحث ومفكر عربي