يوم الاثنين الماضي، في دمشق، في دار الأوبرا تحديداً، وضمن مهرجان احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008، وبينما كان الجمهور القليل يتابع أحداث مسرحية «عدو الشعب... ليس إلا»، وبعد مرور ربع ساعة تقريبا على بدء العرض، فوجئ الجمهور بانهيار بطلها ومخرجها في الوقت ذاته، الفنان ياسر عبداللطيف، والذي كان واضحاً للجميع أن أداءه المسرحي لم يكن متقناً، وبدا طوال الوقت متلعثماً، وهو ينطق جمل حواره بطريقة مشوشة، ولم يستطع الاستمرار، واعتذر للحضور بأنه غير قادر على إكمال العرض «في هذه الظروف»! وسط ذهول الجميع، ممثلين وجمهور، والذين ظن بعضهم أول الأمر، أن ما يحصل هو مجرد «حل إخراجي»، أو خيار في الإعداد اعتمده المخرج مسبقاً، وقد غادر بعض الممثلين الخشبة مباشرة، بينما بقي بعضهم الآخر يحاول جعل المخرج ينسحب إلى الكواليس، وهو ما نجحوا فيه!.

Ad

وتوقف العرض لدقائق، عاد بعدها المخرج مرتبكاً أمام اعتراض بعض الجمهور المحتجين بصوت عالٍ على وقف العرض، مطالبين المخرج بإكماله «لأنهم دفعوا ثمن التذاكر»! فرد المخرج معتذراً «ستستردون ما دفعتم»، مؤكداً أنه يتحمل المسؤولية كاملة عن إيقاف العرض، وأن الظروف «لم تكن مناسبة» وأنه «لم يكن من المفترض أن يكون مخرجاً وممثلاً في المسرحية»!.

وحين سئل أحد العاملين ضمن فريق المسرحية عن «الظروف» التي يتحدث عنها المخرج، قال إنه تعرض إلى «ضغط شديد»، و«انسحب بعض الممثلين الأساسيين من المسرحية قبل أسبوعين من العرض فقط»، وأبدى بعض الممثلين تعاطفه مع المخرج، وقال إنه «ناضل حتى اللحظة الأخيرة»، رافضاً الخوض في التفاصيل.

ولا يحتاج المرء إلى ذكاء كبير ليعرف أن المنع جاء من الناس «اللي فوق»، فعنوان المسرحية «عدو الشعب.. ليس إلا» يدل دلالة واضحة على أنها ذات طابع سياسي، وأنها تحمل بعض النقد للممارسات السياسية، وهذا بالطبع ما لا يعجب الإخوة في الجمهوريات «الوراثية» العربية، ولهم طرقهم الخاصة «المبتكرة» في منع هذا النوع من المسرحيات، فهم لن يلجأوا إلى إصدار قرار بمنع عرضها، فهذه طريقة قديمة للمنع تضعهم في صورة سيئة أمام الجميع، إنما سينتظرون إلى ما قبل بدء المسرحية بأيام، ثم يبدأون بـ«تطفيش» الممثلين الواحد تلو الآخر، ليجد المخرج نفسه في مأزق كبير، ومشكلة لا حل لها، خصوصاً أن المسرحية ضمن فعاليات أحد المهرجانات الثقافية، ولا مجال للتأجيل أو الإلغاء أبداً، والحل الوحيد هو أن يتولى الإخراج وأداء الدور الرئيسي في المسرحية بنفسه، وهو ما لم يستطع القيام به في وقت ضيق.

أكثر ما يلفت النظر هو سلوك الجمهور، الذي لم يهتم كثيراً بمعرفة الأسباب الحقيقية لإنهاء العرض، وما هي تفاصيل «الظروف» التي يعنيها المخرج، وما هي «الضغوط» التي مورست عليه، ومَن هو الذي يحاول تكميم الأفواه وخنق الحريات ومنع الفنانين من التعبير عما يؤمنون به من خلال هذه المسرحية؟!

الواقع أن كل هذا غير مهم عند الجمهور «العربي»، فالمهم هو أنهم قد دفعوا «الليرات» لمشاهدة المسرحية، وبما أنها لم تستكمل، فإنهم يريدون أن يستردوا «ليراتهم» فوراً «كاملة غير منقوصة»، ولا عزاء لحرية الكلمة والتعبير، فهي لا قيمة لها ولا تعني الكثير للمواطن العربي، الذي اعتاد على القمع، كممارِس له وممارَس ضده، ولو كان هذا الأمر حدث في إحدى الدول المتحضرة، لثار الجمهور «الواعي» وطالب أفراد المسرحية بإكمالها غصباً عنهم، ليس من أجل «الليرات» المدفوعة، بل من أجل الحريات المسلوبة، حتى وإن تلعثم المخرج وأدى أداءً سيئاً، فإنه سيقابل بالتصفيق الحماسي الحاد، لشجاعته لا لأدائه، وستقوم الدنيا على مَنْ حاول أن يقمع هذا المخرج الذي ربما كان سيتحول إلى بطل قومي.

أما عند مجتمعاتنا المتخلفة، التي لا تعرف معنى الحرية، فضلاً عن ممارستها، فكل ما يعنيها بأمر كهذا هو استرداد الليرات. فالحريات، ويا للأسف، لا تساوي بنظرنا... حفنة من الليرات!.