آخر وطن: رضاك... هو ما أخشاه!
إن ما أخشاه ليس زعلك، وإنما رضاك!
عندما تغضبين... لا يبقى من الوقت سوى أغصان جافة، وأوراق تذروها الرياح، تتوقف عقارب الساعة عن الدوران، وتمتلئ المآقي بالغيوم البيضاء، تصبح خطواتي عالقة في طين الحزن، أحس وكأنما ضاقت ثيابي على جسدي حتى تكاد تعتصره، أبحث عني في حقائب قلبي فلا أجدني، أقرأ خطوط كفي فلا أراني، أنشطر نصفين، نصفا يمقتني، والآخر...كذلك! لا أعود أرغب فيّ، ولا أصبح أشبهني، أصابعي تنكمش تحت جلدي، أفتقد سكينة روحي، لا يعود قلبي قصبة ناي، وإنما مجرد خشبة جوفاء، لا تموسقه أنفاس، ولا يسترعي انتباه دهشة، وبرغم كل ذلك فأنا لا أخشى زعلك، على العكس من ذلك تماما فإن زعلك يعيدني إلى الواقع، يجعلني جزءا منه، غير متناقض معه بالرغم من تناقضي مع ذاتي! أقرأ مانشيتات الأخبار المريعة بابتسامة بلهاء، أمارس يومي بعادية فجّة لا تثير فضول الآخرين ولا تستفز مشاعرهم السيئة، تتلبّسني عدائية تتناغم والعدائية غير المستترة كثيرا في كل من حولي، تسكنني معايير مزدوجة لكل شيء، للعدل، للظلم، للصدق، للكذب، للأمانة، للخيانة، للغدر... فيجعلني ذلك قادرا على التلون، وتفصيل تلك المعاني على قدر حاجتي ومنفعتي الذاتية، أضع فوق عينيي نظارة لا ترى سواي! أسحب رداء البحر فلا أرى سوى ماء رمادي، وأسماكا بعضها شهي للشواء، ورائحة كريهة! أفتح نوافذ السماء فلا أرى سوى لون رصاصي تتوسطه شمس تصب حقدها لهيبا فوق الرؤوس! أقلب الرمل فلا أجد سوى هياكل عظيمة لأشخاص مجهولين لم يدفنوا بعناية، زعلك يعيد لعيني صورة الحياة الطبيعية، المليئة بالهواء الملوث، وضجيج المارة، وأبواق السيارات، والحافلات المعبأة بالأجساد... ورائحة العرق! لا أحب زعلك... لكني لا أخشاه، لأنه يجعلني أتآلف مع القبح! أما رضاك فهو يربكني... يحولني لجزيرة من الجمال معزولة، محاصرة بالبشاعة، رضاك يجعلني نبيا يجاهد من أجل إيصال رسائله الخضراء للجفاف، وقناديله الملونة للعتمة، وكلماته الطفلة للجور، رضاك يجعلني في حالة من التضاد مع كل ما هو خارجي، يجعلني شفافا كالماء إلا أنه لا يجعل من أي شيء حيّا! أُصبحُ أغانيّ تمجّد الحمام في سوق يعج بالأغاني التي تمجد الخوف والكلمات القاتلة. رضاك يجعلني شهيا كحلوى، وموحيا كفستان عروس، وجذابا كنيون إعلان، فأفقد أحيانا كيفية التعامل مع ذاتي، رضاك يجعلني في غاية الرقة فيسهل كسري، ويجعلني في غاية الحساسية فيسهل جرحي، يجعلني أرى العالم جميلا بهيا رائعا على غير طبيعته، يزيّف الصور، ويعطي للكلمات السيئة غير معانيها، رضاك يصورني للناس طيبا حد السذاجة، ومسالما حد الجبن، وحبيبا حد الغباء، وعميقا حد الجنون، أقف عند تفاصيل الأشياء أتأملها، أبحث عن الحبل السري الذي يربطني بها، فأنا في حضرة رضاك أصبح مؤمنا بأن ثمة حبلا سريا يربط كل عناصر الحياة: الإنسان، النبات، الحيوان، حبات الرمل، النجوم، زهرة النرد، الأحذية القديمة، أعمدة الإنارة في الشوارع، حبات المطر، الكتب المدرسية... وأظل أبحث عن ذلك الحبل السري حتى أبدو للآخرين درويشا! رضاك يجعلني جميلا... لذا أخشاه!