خصائص النهج الإسلامي في التفكير والتدبير 4 - 4

نشر في 16-09-2008
آخر تحديث 16-09-2008 | 00:00
 د. عمار علي حسن

القاعدة التي من الضروري اتباعها هي أن ما ينفع الناس روحيا وعقليا وماديا هو أمر محمود من دون شك، ولا يخالف الدين في شيء.

ربط الإسلام في نهجه في التفكير والتدبير بين الصواب بالإخلاص، وهي الخصوصية التي تفسر تبادل المنافع بين الدين والعلم. ويعني الصواب السير في اتجاه الحقيقة، وعمل ما ينفع، فيما يعني الإخلاص أن تتعدى الغاية من هذا العمل حدود تحصيل عوائد دنيوية إلى ابتغاء مرضاة الله. وقيام الإخلاص بفك الارتباط بين المنفعة الدنيوية الضيقة والصواب، يساعد من يتلمسون طريق الصواب على أن يسيروا فيه دون كلل أو ملل، فلا تحبطهم عوائد قليلة، ولا توقف سيرهم عقبات بفعل صراع المصالح بين البشر، في تكالبهم المرير على متع زائلة. ومن ثم فإن العلم في بحثه عن الحقيقة، والإبداع في تلمسه للجمال، يجب ألا يفتقدا الروحانية والخيرية التي يوفرها الدين، إذ إن هذا الافتقاد من شأنه أن يوجه دفة العلم إلى جلب الشرور، وينزلق بالإبداع إلى تخريب الذوق الإنساني. وقد ضرب القرآن الكريم مثلا مهما في هذا الشأن، ليس من خلال تصويبه لآراء وتوجهات المسلمين في مواقف محددة تعرضوا لها في بداية الدعوة فحسب، بل أيضا حين زاوج بين الإخلاص والصواب، مقدما الأول على الثاني، حتى يوفر له عمقا عقديا يحميه من الانزلاق. ففي بداية الدعوة في مكة، قدم القرآن الجانب العقدي والأخلاقي للإسلام، فلما آمن به أناس وصدقوا، جاءت سور القرآن التي نزلت بالمدينة لتعلمهم كيف يحققون مجتمعا فاضلا، أي يقوم على علاقات صائبة ومقاصد نبيلة. وهنا يرى كثيرون أنه ما من مرة تزاوج فيها الإخلاص والصواب إلا كانت المنفعة والقوة والانتصار والتقدم، وعلى العكس، حين يغيب هذان العنصران، أو أحدهما، فإن الجهود تذهب سدى.

لكن تقدير ما إذا كان منتج فكري معين يتوخى الإخلاص من عدمه، لا يجب أن يترك للبشر، فهذا أمر بين الإنسان وربه. والقاعدة التي من الضروري اتباعها في هذا الشأن أن ما ينفع الناس روحيا وعقليا وماديا هو أمر محمود من دون شك، ولا يخالف الدين في شيء، فكما سبق القول فإن الأديان شرعت لمصلحة الناس ولم يخلق الناس للدين. وإغفال هذه القاعدة، أو ادعاء البعض حقا في الوصاية على الدين، وامتلاكهم وحدهم القدرة على التمييز بين ما يخالف الشرع وما يوافقه، هو السبب وراء ما تتعرض له الأفكار من مصادرة وما يلاقيه أصحابها من صلف.

وحول نزوع النهج الإسلامي إلى الكوني، فنجد أن الإسلام لا يقدم نفسه على أنه يخص قوما بعينهم، مثل بعض الأديان السماوية والمذاهب الوضعية، بل هو، بوصفه الدين الخاتم، يطرح نفسه أمام البشر كافة، منطلقا من تعريف واسع له وهو أن الإسلام هو التسليم لله سبحانه وتعالى، وتحدده بعد ذلك أركان خمسة واضحة. وهذه النزعة جعلت الإسلام، طيلة تاريخه في تداخل مع «الآخر» إما اشتباكا أو حوارا، وجعلته محل اتهام من قبل بعض المغرضين بأنه «دين انتشر بحد السيف». وهي المسألة التي ينتقدها علماء المسلمين من منطلق أن الفتوحات الإسلامية لم تكن تجبر قاطني البلاد المفتوحة على اعتناق الإسلام، إنما كانت تهدف بالأساس إلى إزالة ما يحول بين الناس وهذا الدين، من سلطة غاشمة. وتستعيد الأذهان هنا الشهادة التي قالها عالم الاجتماع السياسي الفرنسي غوستاف لوبون في معرض تناوله لهذا الموضوع، والتي أتت على عكس الكثير مما يروجه المستشرقون. فلوبون يؤكد أن الدولة الإسلامية التي امتدت من الأندلس غربا حتى الصين شرقا، لم تبلغ هذا الاتساع الكبير بدموية وعنف يماثل ذلك الذي تم ارتكابه أثناء توسع الإمبراطوريات الأخرى عبر التاريخ ابتداء من الرومان وحتى الحقبة الاستعمارية الحديثة. علاوة على ذلك فإن من بقوا على دينهم في أرض البلاد المفتوحة، طالما تحدثوا عن العدل والتسامح الذي وجدوه في ظل حكم المسلمين مقارنة بمن سبقهم. وهذه النزعة الكونية جعلت تبليغ رسالة الإسلام واجبا على كل مسلم. وإذا كان المسلمون الأوائل لم يجدوا وسيلة لتحقيق هذا الهدف سوى الزحف إلى البلاد المتاخمة للجزيرة العربية يمينا وشمالا وشرقا وغربا فإن الوضع الآن قد اختلف، في ظل ثورة الاتصال الرهيبة واتساع وسائل الطباعة والنشر، التي حولت العالم بأسره إلى قرية صغيرة. وهنا فإن إبلاغ رسالة الإسلام يجب أن يتم باستخدام الأدوات التي أتاحتها تقنية الاتصالات الحديثة، وأن يؤمن المسلمون بأن هذا ضرب من ضروب الجهاد في سبيل الله. وعدم فهم بعض المتطرفين من بين المسلمين لهذا الأمر ساق إلى «صدام» بين هؤلاء و«الآخر»، كان العالم سيتجبنه لو لم ينحط المسلمون في فهمهم لجوهر دينهم الحنيف.

وهذا التصور الكوني يفرض أمرين مهمين: الأول هو التعاطي المستمر مع المنتج الفكري لدى الآخرين، والثاني هو إنتاج أفكار دينية معاصرة تصلح لإقناع البشرية جمعاء. وكلا الأمرين يفرضان بشدة قدرا هائلا من التسامح مع ما ينقل وما ينتج من أفكار، سواء كانت «اجتهادا» دينيا، أو إبداعا أدبيا وإنسانيا أو اختراعا علميا. وهذا يعني في خاتمة المطاف الإيمان بحرية التفكير والتعبير، ناهيك عن حرية الاعتقاد والتصور.

* كاتب وباحث مصري

back to top