لا شك أن "التنمية" الذاتية تعد من الاستراتيجيات المهمة التي يمكن اتباعها عربيا في هذه اللحظة الفارقة من التاريخ الاقتصادي العالمي، لمواجهة الأزمة المالية التي تضرب العالم شرقه وغربه، لأنها تُبنى أساسا على السعي الحثيث إلى الاكتفاء الذاتي أولا ثم التفاعل الخلاق مع الدوائر الاقتصادية العالمية ثانيا، وكلاهما شرطان رئيسان لمواجهة ما لدى الآخر المنافس، وكذلك العدو الآني أو المحتمل الذي نتعالق معه في صراع، من قدرات مادية تسنده في التجبر علينا أو تمده بما يمكنه من غزونا واحتلال أرضنا أو في حد أدنى فرض الوصاية السياسية علينا. ولا يعني هذا بالضرورة أن التنمية الذاتية هي مجرد تعبئة اقتصادية لخدمة المجهود الحربي، فهذه وظيفة ظرفية وطارئة، بل هي وقاية تامة للأمة من الضعف والهوان وذل الحاجة إلى المساعدات وصيانة للأغلبية العظمى من الجماهير من العوز والفاقة، بما يوطن نفوسهم ويشد ساعدهم، فلا يكونون قابلين للغزو أو الاستغزاء. كما لا تعني التنمية الذاتية الانسلاخ الكامل عن النظام العالمي، فهذا مقصد غير علمي، وتوجه يجافي الواقع، ولا يصمد أمام التطور الاقتصادي الدولي، إنما تركز على "الانسلاخ الانتقائي" الذي يجعل العلاقات الدولية في خدمة "التنمية المستقلة" أو على الأقل لا يجعلها عقبة كؤودا أمامها. وهي هنا قد تساهم في إنقاذ "التنموية" كحركة علمية طفت على السطح منذ الحرب العالمية الثانية وأفرزتها المدرسة السلوكية في العلوم الاجتماعية لمواجهة المد الشيوعي من السلبيات التي التصقت بها، والمآخذ التي سجلت ضدها، والتي فضحتها مدرسة "التبعية"، وشككت في مسلماتها الفلسفية، وكشفت الجوانب الخفية لها. والتنمية الذاتية بما تعنيه من حق تقرير المصير الاقتصادي لا تدعو إلى اتباع سياسة العزلة التامة عن العالم، إنما هي ترمي إلى تحويل الاقتصاد التابع أو الهامشي إلى اقتصاد مستقل عن الأبنية الرأسمالية المتسلطة والمسيطرة على السوق العالمية، دون فقدان العلاقات الاقتصادية المتبادلة، التي تحقق مصالح الدول النامية.

Ad

ومن يمعن النظر في تاريخ التنمية على مدار القرون الثلاثة الأخيرة سينتهي إلى حقيقة جلية، مفادها أنه لا توجد حالة تنمية واحدة تكللت بالنجاح من دون توافر العناصر الأساسية للتنمية الذاتية، والتي تقوم على القواعد التالية:

أ- بلورة هوية وطنية جامعة، تمنح الفرد والجماعة معا إطارا متماسكا يمكنها من بناء رؤية محددة للعالم تساعد على حسن التعامل معه، ونظرة إلى الذات تقود إلى احترامها وتقديرها.

ب- تعزيز القدرة على الضبط والقيادة الذاتية في مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ج- تنويع النشاط الاقتصادي وتوسيعه على مستوى القطاعات الاقتصادية كافة، وتأسيسه على نظام تعليمي يخدم برامج التنمية الشاملة.

د- وجود إرادة حرة في تحديد شكل وحجم التعاون المتبادل مع الدول الأخرى، بما يحقق المصالح المشتركة.

ومن هنا تتجسد التنمية المستقلة في نطاق عوالم ثلاثة هي: عالم الرؤى والمفاهيم والتصورات، وعالم المواقف والخيارات، وعالم الفعل والتصرفات الذي ينصرف إلى الخطط والبرامج والأدوات والمؤسسات، وهي في جوانبها النظرية وتطبيقاتها العملية تعني تسعة أمور أساسية يحددها عالم الاقتصاد الراحل الدكتور إسماعيل صبري عبدالله في:

1- الاعتماد على النفس في مواجهة المعونات والقروض والاستثمارات الأجنبية.

2- وجود تنمية تتمحور حول الذات، وتتوجه إلى الداخل، في مواجهة انشطار الاقتصاد إلى شق تحديثي يرتبط عضويا بالشركات متعددة الجنسيات وشق تقليدي يتأسس على أشكال الإنتاج القديمة المتوارثة والبسيطة.

3- توفير حد الكفاية أو الحاجات الضرورية لعموم المواطنين في مقابل إثراء القلة وتهميش الأغلبية وإفقارها.

4- الاهتمام بالتنمية البيئية في مواجهة النهب المنظم للموارد الطبيعية والذي يؤدي إلى نضوبها، وحرمان الأجيال القادمة من حقها فيها.

5- توسيع المشاركة الشعبية للحد من تجبر الحكام وتسلطهم، من منطلق أن الديمقراطية السليمة هي أحد الأطر المهمة التي تحفظ التنمية الذاتية وتوجه حصادها إلى مكانه الطبيعي.

6- اللجوء إلى تقنية ملائمة لظروفنا، تلبي احتياجاتنا، وتغني نفوسنا عن الانبهار الرخيص بالتقنيات المتقدمة التي لا نحوزها إلا بالاستيراد، ولا يسمح لنا بامتلاكها إلا في ظل التبعية. ثم العمل على تطوير ما لدينا من تقنيات في ظل استراتيجية ترمي إلى بناء قاعدة علمية وتقنية وطنية، تساهم في ردم الهوة بيننا وبين الدول الصناعية الكبرى.

7- التمسك بالهوية الحضارية والخصوصيات النافعة في مواجهة الذوبان في الآخر، أو الانسحاق أمامه، ومحاكاته وتمثله.

8- دفع الاقتصاد الوطني نحو التكامل الداخلي بما يمكنه من تصفية الجيوب المرتبطة بالخارج، وفي مقدمتها مناطق تركز النشاط التابع للشركات متعددة الجنسيات.

9- الميل إلى الاعتماد الجماعي على النفس على المستوى الإقليمي، وبين الدول المتجاورة، بما يمكنها من تشكيل كيانات اقتصادية كبيرة بوسعها النضال ضد أساليب الاستعمار الجديد، وسعي الدول الكبرى في السيطرة والاستغلال، وفي إمكانها الوقوف في وجه التكامل الاقتصادي الذي يجري بين الدول الصناعية.

أما الجوانب التطبيقية أو الإجرائية للتنمية الذاتية فتبدأ بحصر شامل لجميع الموارد المحلية المتاحة من قوى عاملة ورأسمال ومواد خام ووسائل إنتاج ومعارف تنتجها النخبة أو يجود بها الموروث الشعبي، ثم القيام بربط حركة التصنيع بالموارد المحلية، وتطوير أساليب الإنتاج القائمة وتشجيع ابتكارات أخرى تلائم الموارد المحلية من جهة، وتلبي احتياجات القاعدة العريضة من الشعب، ورفع إنتاجية القطاع الزراعي، باعتبار الزراعة هي المكون الأول للنشاط الاقتصادي، والذي تضيق فيه الفجوة بين الدول مقارنة بالصناعة والتكنولوجيا.

* كاتب وباحث مصري