ربما لم يلاحظ البعض أن الاعتراض على دعم جورج بوش السَّخي لوقف الانهيارات المرعبة التي ضربت أهم البنوك الاستثمارية وكبريات الشركات في الولايات المتحدة جاء من قبل المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية جون ماكين، بينما جاء تأييد هذا الدعم وتشجيعه من قبل المرشح الديمقراطي باراك أوباما... وهذه قد تبدو مفارقة بالنسبة لمن يتابع السياسة الأميركية عن بُعد، وغير مطلع بما فيه الكفاية على حقائق الأمور هناك.

Ad

في الولايات المتحدة تبدو المفاهيم مقلوبة، قياساً بما عليه الأوضاع في بريطانيا وفرنسا وأوروبا عموماً، والعالم بأسره، فالجمهوريون الذين من المفترض أنهم محافظون، وأنهم مع المركزية الشديدة، ومع مسؤولية الدولة عن كل شيء، وعن كل شاردة وواردة يتصرفون على أنهم هم «الليبراليون الجدد» وأنهم ضد تغوّل المركز على الأطراف، وضد أن تكون واشنطن المرجعية المتسلطة والأم المسؤولة في كل الولايات في السراء والضراء وفي الخير والشر.

والديمقراطيون الذين من المفترض أنهم يساريون وأنهم أكثر انفتاحاً وليبرالية، وأشد رفضاً ومقاومة لـ«تغوُّل» الدولة يتخذون المواقف الأكثر محافظة، والأكثر تمسكاً بمرجعية العاصمة الفدرالية ومسؤوليتها عن كل شيء، وهذا هو الذي جعل أوباما يؤيد الخطوة التي قام بها جورج بوش بتقديم دعم سخيٍّ لمنع تواصل الانهيارات في الاقتصاد الأميركي، في حين عارضها المرشح الجمهوري جورج ماكين، وإن كان من قبيل مجرد تسجيل الموقف لتأكيد الالتزام بالسياسات والتوجهات الجمهورية.

هناك في الولايات المتحدة وفي بريطانيا وبعض دول أوروبا من يرفض مبدأ مساندة الدولة للبنوك والشركات المهددة بالانهيار، وهؤلاء لا ينظرون الى الأمور نظرة عامة وشمولية، بل ينظرون إليها من ثقب مصالحهم الذاتية الضيق، وهم يحاجّون الذين يخالفونهم بالقول إنه لا يجوز للدولة ان تنفق أموال دافع الضرائب لإنقاذ بنك آيلٍ للانهيار والسقوط مادام هذا البنك، وبخاصة إذا كان من نمط البنوك التي تعمل في مجال قروض العقارات، لا يتردد في الحجز على منزل أي زبون إذا تأخر عن دفع الأقساط المترتبة عليه في التواريخ المحددة.

في كل الأحوال، لابد من الإشارة في هذا المجال الى ان بعض الشبان العرب، الذين تبوأوا مراكز قيادية في دولهم بعد تخرجهم في الجامعات والمعاهد الغربية، قد حاولوا تطبيق «الليبرالية الجديدة» وفقاً لفهم خاطئ، فهُم اعتقدوا ان النهوض الاقتصادي والتنمية السياسية يفترضان إضعاف الدولة المركزية حتى حدود التلاشي، وتحويلها الى ما يشبه الشركة المساهمة الكبيرة، وهذا في الحقيقة إن هو لاءم بعض الدول الأوروبية الصغيرة فإنه من المبكر جدّاً اعتباره ملائماً لدول العالم الثالث، وفي مقدمتها الدول العربية، حيث لاتزال بعض أنماط القطاع العام مطلوبة وضرورية، وحيث هناك مقتضيات كثيرة تفرض مركزية واسعة الصدر، لديها القدرة على التعايش مع الديمقراطية، ومع الاقتصاد المنفتح الذي يحتفظ بهامش معقول بينه وبين السلطة المركزية.

* كاتب وسياسي أردني