أصعب ما في كتابة الرواية هو الوصول إلى النهايات المقنعة.. أو المتطابقة مع فكرة الرواية الأساسية، وهي لب الحدث والمضمون المراد توصيله والوصول إليه.. وتتجلى هذه الصعوبات في أوجهها، حين يدور النص حول أحداث ومواضيع ميتافيزيقية مشتبكة خيوطها مع مدلولات فلسفية وأفكار تأملية وبحثية في حيوات النص الروائي.. لأن الكاتب يتواجهه في النهاية بإثبات ما يريد توصيله.. وبرهان ما يقوله.. وهنا تنبثق صعوبة الإثبات.

Ad

ويقع الروائي في مأزق خطير.. فإما أن يأتي بنهاية منطقية تتسق مع الأحداث.. أو يلجأ إلى حيل وألاعيب التقنية الروائية في البناء السردي.

ولأنه عاجز عن الخلق الحقيقي وهو الأمر المستحيل.. مهما بلغت قدرته على خلق الشخصيات وحيواتها، وعوالمها، ودرجة التعقيد العالية في بناء حياة النص والمعمار الحكائي.. لذا سيلجأ إلى تقنية الأحلام أو التمويه والهلوسة أو التضليل أو الفانتازيا أو النهاية المفتوحة.

وهذه هي مشكلة من يكتب هذا الجنس الروائي.. لأنه حتما سيتصادم مع حقيقة إثبات ما يقوله.. وغالباً ما يحكي عنه صعب إثبات وجوده.. مهما بلغت قدرة الخلق لدى الروائي، فإنها عاجزة عن إعطاء النسق الحقيقي للحياة، أي وهب الروح في وجود ميتافيزيقي.. وهذا ما واجهته رواية «كافكا على الشاطئ»، ومن قبلها رواية «شفرة دافنشي»، وروايات كثيرة لا يتسع المجال لذكرها الآن.

«فكافكا على الشاطئ» و«شفرة دافنشي» تمسكان بتلابيب القارئ من أول كلمة وحتى آخر كلمة في آخر سطر.. وليس أمام القارئ إلا الهرولة خلف الدراما اللاهثة والحبكة المتوترة وغموض النص.. ويستمر في لهاثه حتى ينتهي النص بميوعة غير ممسوكة وغائمة في شبكات التبريرات الحلمية والميتافيزيقية.. وهذا هو قدر هذا الصنف من الكتابة الروائية.

فليس هناك حل إلا اللجوء إلى الكتابات التي تستند إلى المثيلوجيا، وهي صنف آخر لا ينتمي إلى الرواية الحديثة الواقعية، أو أن يلجأ إلى الخيال العلمي وبالتالي تُبرر الأحداث منذ بدايتها بأنها ليست أكثر من خيال علمي.. وهذا أيضا صنف آخر من العمل الروائي ولا ينتمي إلى ما أتكلم عنه.. وصعوبة هذا النوع من الروايات أنه يلجأ إلى الغامض من المعنى، ومن الحياة، ومن الروح، ومن المصير، ومن نهاياتنا المجهولة، وعالمنا الأخير.. كلها أمور غامضة المعنى ومستحيلة على التفسير وعلمها عند خالقها القدير.. وأي اقتراب منها صعب إثبات براهينه.

ولذلك ينتهي المعمار الروائي المشيّد على عدم قدرة الكاتب على بعث الروح فيما يقوله واثبات يقينية ما يتحدث عنه.. تصل بنا إلى تلك النهايات المائعة والهلامية.. المتشابكة في الأحلام الزئبقية الصعب القبض عليها والذوبان في الهلوسة والفانتازيا.

وأرجو أن لا يُفهم من كلامي بأنها روايات سيئة.. بالعكس.. إنها روايات رائعة، خصوصا رواية «كافكا على الشاطئ» التي هي في رأيي قمة ما كتبه الروائي الياباني «هاروكي موراكامي».. ومن أجمل أعماله.. ولكن المشكلة تكمن في بث برهان الروح فيما يُكتب عنه، لاسيما في هذا النوع من الروايات الحداثية التي لا تنتمي إلى المثيلوجيا ولا إلى الخيال العلمي، فتنتهي إلى تلك النهايات غير المقبوضة.

وربما كلامي هذا لايفهم إلا من أصحاب المهنة ذاتها وأقصد كُتّاب الرواية.. لأنها مشكلة خاصة بطبيعة الكتابة.

وهذه مقاطع من كافكا على الشاطئ:

• «أتعرف ما هو الليمبو؟ إنه المكان ما بين الحياة والموت.. مكان كئيب وحزين.. أي بكلمات أخرى حيث أنا الآن في هذه الغابة.. هاقدمت برغبتي الخاصة، لكنني لم انتقل إلى العالم الآخر.. أنا روح في العالم الانتقالي، والروح في العالم الانتقالي لا شكل لها، لقد تجسدت في هذا الشكل مؤقتاً، ولهذا لا يمكنك أن تؤذيني، أتفهمني؟ حتى لو نزفت، وأغرقت المكان بدمي، فلن يكون دماً بحق، حتى وإن عانيت بشدة، فلن تكون معاناة بحق، الوحيد الذي يستطيع محوي الآن وفوراً يجب أن يكون أهلا لذلك، والأمر المؤسف أنك لست أهلاً لذلك.

لست سوى وهم غير مكتمل، ومهما بلغ إصرارك، فإن محوي محال بالنسبة إلى أمثالك.

صحيح. مجاز تبادلي. الأشياء خارجك ليست سوى انعكاس ظاهري لما بداخلك، وما في داخلك انعكاس لما هو خارجك، ولهذا حين تدخل متاهة في الخارج، تكون في الوقت نفسه قد دخلت إلى متاهة الداخل، وهو بالتأكيد أمر ينطوي على خطر».