كانت أفغانستان فيما مضى من قرون ازدهار الحضارة الإسلامية، واحدة من أهم الأقاليم الإسلامية في قلب آسيا، فهي بموقعها المتوسط بين الهند وإيران وبلاد الترك أو التركستان، قدر لها أن تكون معبرا للغزوات ومسرحا للحروب حينا، ومنطلقا لهيمنة جيوش الدول الإسلامية على مقدرات أقاليم مجاورة، وخاصة في شبه القارة الهندية التي طالما خضعت لسلطان، ملوك الأفغان أحياناً أخرى.
وقد أتاح موقع أفغانستان الاستراتيجي فرصة تاريخية لتلاقي التقاليد الفنية في العمارة والفنون، والتي تميزت بها أقاليم الجوار، ومنحت أفغانستان لمنتجاتها شخصية مميزة تشهد بها مقتنيات المتاحف والمساجد التي مازالت قائمة في مدينة «بيشاور » على وجه الخصوص . ومن أهم المعالم الأثرية الشهيرة في أفغانستان، تلك المئذنة السامقة والمعروفة باسم «منار جام» ، وكانت المئذنة ملحقة بالمجسد الجامع لهذه البلدة الجبلية . والمنار من أروع الآثار الإسلامية الباقية بهذا القطر، الذي دخله المسلمون في اندفعاتهم الأولى للفتوحات في عهد الراشدين، حيث انخرط أهله في الإسلام بسرعة فائقة، وشرعوا يرتحلون إلى ديار الإسلام شرقا وغربا حتى أن الجامع الأزهر خصص لطلبة العلم من الأفغان رواقا عرف باسم رواق السليمانية، ويكفي للدلالة على الاندماج الصادق للأفغان في الإسلام، أن أحد رواد النهضة العربية والإسلامية في العصر الحديث كان من أبناء أفغانستان وهو الشيخ جمال الدين الأفغاني . ترتقع مئذنة جام أو منار جام كما يطلق عليها السكان المحليون فوق الجبال الشاهقة المحيطة بالبلدة الواقعة على نهر « هري رود » ، وكانت في الأصل جزء من مسجد جام الذي اندثر كل أثر له الآن، ويبلغ ارتفاع المئذنة حوالي سبعين مترا ويبدو من تصميم منار جام أنه جاء متأثرا بتقاليد عمارة الأتراك السلاجقة، والتي هيمنت على العمائر الإسلامية في أرجاء آسيا الوسطى خلال القرنين السادس والسابع للهجرة «12 - 13 م » ، فالمنارات السلجوقية غالبها مستديرة ومنها ما هو مضلع ذو ستة أو ثمانية أضلاع، وأحيانا كان المعماري يتفنن في استخدام أكثر من نمط من الأبدان المضلعة، وفي هذا النوع من المآذن السلجوقية كان يكتفي بشرفة واحدة للأذان تشيد بأعلى قمة المئذنة . ونجد صدى هذه التقاليد السلجوقية بشكل واضح في منار جام، حيث قام مهندسها بالجمع في تصميمها بين الشكل الإسطواني والبدن المثمن الأضلاع، ولم يستخدم مع الارتفاع الهائل للمئذنة سوى شرفة واحدة لوقوف المؤذن . وزيادة ارتفاع هذه المئذنة الذي يعادل ارتفاع برج سكني من 25 طابقا، له أسباب أخرى غير غرض الأذان، والذي كان سيسمع بوضوح في هذه البلدة الجبلية النائية، لو كان ارتفاع المئذنة قد وصل إلى نصف ارتفاعها الحالي . ومن المرجح أن هذا المنار كان يستخدم كمرصد لتحركات القبائل التركية والمغولية التي دأبت على مهاجمة القوافل التجارية، والإغارة على البلدات الأفغانية لفترات طويلة، ولا سيما عندما تفتقد البلاد حكما مركزيا يهيمن على أقاليمها المختلفة . ويبدأ منار جام بقاعدة ضخمة ذات ثمانية أضلاع، طول كل ضلع منها أربعة أمتار، بينما يزيد ارتفاع هذه القاعدة قليلا على المترين، ويلي القاعدة بدن أسطواني يرتفع لأعلى، ويصل ارتفاع هذا الطابق الثاني إلى حوالي أربعين مترا، وهو ينتهي بصفوف من المقرنصات والتي نراها دوما في عمائر السلاجقة الأتراك ومن قمة هذا الطابق ينطلق بدن أسطواني آخر، يستدق كلما ارتفع لأعلى، وإن كان أقل قطرا من سابقه، وأيضا أقل ارتفاعا، إذ لم يتجاوز ارتفاعه عشرة أمتار، وهو بدوره ينتهي أيضا بصفوف من المقرنصات البديعة التكوين . وبعد المقرنصات الأخيرة يأتي الطابق الثالث الذي جاء كسابقيه كبدن أسطواني مسلوب، وإن كان أقل قطرا في سعته وأقل ارتفاعا، إذ لم يتخط سبعة أمتار، وينتهي هذا الجزء بشرفة أذان دائرية ذات شبابيك معقودة، وكان المؤذن يدور حول هذه الشرفة لرفع الأذان في أوقات الصلاة، بينما يبقى بها رجال الاستطلاع بقية أوقات اليوم لرصد الإغارات المحتملة على بلدة جام ومحيطها ويتوج هذا الطابق الأخير بقبة ضحلة دقيقة الصنع، تذكرنا للوهلة الأولى بنهايات المآذن الصفوية المعروفة باسم العمائم . ولمنار جام - سلم - داخلي يصل بين قاعدة المنار وشرفة الأذان العلوية، ويبلغ عدد درجات هذا السلم مئتين وخمسين درجة وقد شيد المنار كله من الآجر، كما هو الحال في هذه المنطقة من آسيا التي اشتهرت منذ القدم بتعرضها للزلازل المدمرة، مما دفع المسلمين بها إلى تفضيل البناء بالآجر على استخدام الأحجار . ولجأ المعماري إلى صف قوالب الآجر بطريقة فنية، أعطت سطحه الخارجي منظرا غاية في الجمال، حيث بدت زخارفها على هيئة عقود ودوائر وزخارف هندسية معقدة، وترك هذا النوع من الزخرفة البنائية أثرا واضحا على عمائر التيموريين التي شيدت في سمرقند وبخارى وقبل أن ينتهي الطابق الأول وأسفل مقرنصاته مباشرة نجد كتابات كوفية نفذت باستخدام بلاطات خزفية طليت بالأزرق الفيروزي، وهي تحتوي بعض آيات من القرآن الكريم، كما توجد كتابات كوفية أخرى في أعالي المئذنة نفذت بالبلاطات الخزفية، ويستفاد من هذه الكتابات الأخيرة أن المنار والمسجد المندثر كلاهما من الأعمال الإنشائية للسلطان غياث الدين الغوري الذي حكم البلاد فيما بين 547هـ و 558 هـ . وقد نشأت الدولة الغورية في جبال «غورستان» وقوى أمرها في الوقت الذي كانت تسير فيه الدولة الغزنوية نحو خاتمتها المحتومة، ومن ثم ورثت أملاك هذه الدولة في غزنة وقندهار والهند . ويعتبر الحسين بن الحسن الملقب بعلاء الدين الغوري المؤسس الحقيقي لدولة الغوريين، إذ استولى على غزنة وأرغم بهرام شار بن مسعود بن محمود الغزنوي على الفرار منها، ورغم عودة بهرام واستيلائه على غزنة من يد حاكمها الغوري، فإن علاء الدين آب إلى المدينة واستعادها بعد أن نكل بأهلها . وعقب وفاة علاء الدين قام غياث الدين مشيد منار جام بالاستيلاء على عرش البلاد بعد وفاة عمه، وتلقب بأبي القيم محمد الغوري، ونجح في أن يقضي نهائيا على دولة الغزنويين . وبعد وفاة غياث الدين نجح أخوه شهاب الدين الغوري في مد نفوذ دولته إلى خراسان، وغزا ملتان بالهند وفتح لاهور وغيرها من مناطق الهند ليحطم أصنامها ومعابدها ويقيم المساجد عوضا عنها وأتم شهاب الدين أعماله العسكرية الباهرة بالاستيلاء على دهلي - دلهي - التي أصبحت من وقتها عاصمة للهند، ولكن شهاب الدين الغوري لم يعقب ولدا، ومن ثم عهد إلى مملوكه قطب الدين أيبك بحكم الهند، وما لبث أن اغتيل وعمت فوضى الاقتتال الداخلي بين أبناء البيت الغوري، لينفرد قطب الدين منذ 602 هـ بحكم الهند، وليؤسس لنفسه أول دولة مملوكية في الهند تعاقب على حكمها المماليك الأتراك من أسرته .
توابل
مآذن لها تاريخ منارجام في أفغانستان
10-09-2008