ما قل ودل: تصدير الغاز إلى إسرائيل وطرد سفير الدنمارك... أمام القضاء (1-2)
صدر منذ أيام حكمان قضائيان في الكويت وفي مصر بينهما بضعة أيام، صدر أولهما في 18/11/2008 وصدر ثانيهما في 26/11/2008 ومحورهما واحد هو العلاقات الدولية ومدى اعتبارها عملاً من أعمال السيادة التي لا يبسط القضاء رقابته عليها، ولكل منهما نظره الذي يختلف عن الآخر في قضائه وفي أسبابه، الأمر الذي رأينا معه طرحهما على القارئ، قبل أن نستكمل سلسلة المقالات التي بدأناها على هذه الصفحة حول أعمال السيادة، التي نشر منها مقالان يومي الاثنين «8 و15- 12- 2008» باعتبار كل حكم منهما نافذة نطل منها على الاتجاهات الحديثة في تحديد أعمال السيادة.
القضية الأولى: وقف تصدير الغاز إلى إسرائيلهي دعوى قضائية أقامها مواطن مصري أمام مجلس الدولة المصري ضد رئيس مجلس الوزراء ووزير البترول ووزير المالية بصفتهم بطلب وقف تنفيذ قرار وزير البترول المصري رقم 100 لسنة 2004 بتصدير الغاز إلى إسرائيل والاتفاقات التي ترتبت عليه، حتى تفصل المحكمة في إلغاء هذا القرار وهذه الاتفاقات، وإلغاء قراره كذلك برفع سعر البنزين والسولار على المواطن والذي يمكن تعويضه من الدعم الذي يمنح لإسرائيل بموجب القرار الأول.القضية الثانية: طرد سفير الدنمارك من الكويتأقامهما مواطنان كويتيان أمام المحكمة الكلية ضد كل من رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية، بطلب الحكم بإلزامهما بطرد السفير الدنماركي من دولة الكويت، استهجاناً لما بدر من بلاده، على إثر ما قامت به الصحف الدنماركية من إساءة إلى شخص الرسول الكريم.الشعب المصري كله ينضم إلى المدعيوأثناء نظر الدعوى تقدم اثنا عشر مواطناً مصرياً، بينهم رئيس لجمعية حقوق الإنسان في الاسكندرية بصفته بطلب تدخل انضمامي إلى جانب المدعي في الحكم بطلباته في الدعوى على سند من قولهم بأن الدعم الذي يؤمنه توريد الغاز لإسرائيل بأسعار رمزية لا تصل إلى عُشر الأسعار العالمية السائدة، انعكس سلباً على مصلحة الدولة ومصلحتهم كمواطنين مصريين بتقليص الدعم، بالمقابل، لمحدودي الدخل بزيادة أسعار البنزين والسولار وغيرهما من المنتجات البترولية.وهو تدخل في الدعوى لا يثير دهشة أحد، لأن المصريين جميعاً وبلا استثناء على قلب رجل واحد، بالنسبة إلى رفض التطبيع مع إسرائيل، والمصريون على قلب رجل واحد أيضا بالنسبة إلى محاربة التفريط في الثروات الطبيعية للبلاد التي كفل الدستور حمايتها، وهم على قلب واحد بالنسبة إلى رفضهم تزويد إسرائيل بالغاز أصلاً وأساساً، وأياً كان الثمن الذي تعرضه إسرائيل لهذا الغاز ولو كان أضعافاً مضاعفة للسعر العالمي، في الوقت الذي يصل فيه سعر أنبوبة الغاز التي تستخدمها الأسرة الفلسطينية في غزة إلى ما يجاوز المئة وثلاثين دولارا، بعد الحصار الذي فرضته إسرائيل على غزة، وحرمت فيه الشعب الفلسطيني من ضرورات الحياة، والمأساة التي يعيشها هذا الشعب في ظل هذا الحصار. المحكمة تقبل تدخل المنضمين إلى المدعيكما لم يثر دهشة المحكمة أن ينضم كل مواطن مصري إلى المدعي في طلباته، فقبلت انضمام كل من طلب الانضمام إلى المدعي في الدعوى لأن لهم مصلحة ظاهرة فيها، باعتبارهم مصريين يتضررون، شأنهم شأن المدعي، من بيع الغاز الطبيعي المصري، وهو من الثروات الطبيعية للبلاد إلى إسرائيل بأسعار لا تتناسب والسعر العالمي السائد الأمر الذي يهدر جزءاً من موارد الدولة وثروتها القومية والذي يمكن أن تعود عليهم بالنفع لو روعي التصرف في هذه الثروة بما يحفظ لمصر حقوقها.المحكمة ترفض تدخل المنضمين إلى الحكومةولكن ما أثار دهشتي ولعله أثار كذلك دهشة المحكمة، هو تدخل أربعة وعشرين مصرياً منضمين إلى الحكومة وهو ضعف العدد الذي انضم إلى المدعي، أمام المحكمة، تدخلوا في الدعوة لمؤازرة الحكومة في طلبها الحكم بعدم اختصاص المحكمة أصلياً، وعدم قبول الطعن ورفضه احتياطياً، ولهذا كان قضاء المحكمة برفض هذا الانضمام لعدم وجود مصلحة قانونية لمن انضموا إلى الحكومة، تأسيساً على ما جاء في أسباب هذا الحكم من أن ما أرادوه من حرص على استقرار الاقتصاد المصري وتوفير العملة الأجنبية اللازمة لتوفير السلع الغذائية- كما جاء في بيان أسانيد تدخلهم- إنما يتحقق لا من خلال انضمامهم إلى الحكومة في طلباتها، بل من خلال الحكم للمدعي بطلباته، وبالتالي حصول مصر على أسعار مناسبة وعادلة نظير بيع ثرواتها الطبيعية، الأمر الذي يحقق عائداً أعلى وإيراداً أكبر وموارد أكثر لمصر من شأنها تحقيق الاستقرار الاقتصادي المنشود وتوفير موارد لدعم السلع الأساسية للمواطنين.مصطفى مرعي وأيام الزمن الجميلوفي تقييم التدخل الانضمامي أمام المحكمة، من الأطراف التي تدخلت مع المدعي لإلغاء قرار وزير البترول، الذي لم يثر دهشة أحد أو دهشة المحكمة، أو من الأطراف التي تدخلت للدفاع عن القرار، والذي أثار دهشة بل تقزز الجميع، فإن من يطالع هذا التدخل الأخير ودوافعه ومراميه، لا بد أن يجزم بأن الحكومة هي التي استعانت بهذه الأطراف لمؤازرتها في الدفاع عن القرار، وأغلب الظن أن هيئة قضايا الدولة التي تضطلع بهذا الدفاع هي التي أشارت على الحكومة بهذا المسلك المعيب.وقد ذكرني هذا المسلك، بموقف مختلف تماماً وقفه رجل عظيم من أيام الزمن الجميل في الثلاثينيات، هو المحامي النابغة والسياسي البارع، مصطفى مرعي رحمة الله عليه، عندما تولى رئاسة إدارة قضايا الحكومة (هيئة قضايا الدولة الآن) فقد طالب المحامين في هذه الإدارة من خلال منشور أصدره في بداية ولايته، بالامتناع عن الدفع أمام المحكمة بعدم قبول الدعوى لعيب في شكلها أو إجراءاتها أو لسقوط الحق المطالب به في الدعوى أو تقادمه بمضي المدة، لأن الحكومة كما أبان في منشوره هي خصم شريف، وعليها أن ترد للناس حقوقهم، دون أن ترهقهم عنتاً بإجراءات إدارية وقضائية وفي مواعيد معينة قد لا يكونون على إدراك وإلمام بها.ونعود إلى القضيتين، اللتين يجمع بينهما أن الحكومة دفعت في كليهما بأعمال السيادة، وقُضي في القضية الأولى برفض الدفع وقُضي في القضية الثانية بقبول الدفع، وهو ما سوف نتناوله في مقال قادم بإذن الله.