في ستينيات القرن العشرين، ابتكرت الحركة النسائية شعار «أجسادنا... هوياتنا». إلا أن هذه الفكرة التحررية خضعت أخيراً لتحول ساخر. ولقد عبرت سيدة أميركية عن هذه المفارقة في تبريرها لقرارها بالخضوع لجراحة تجميل، فقالت: «كل ما نملكه في هذه الحياة، وكل ما نستطيع أن نقدمه إلى هذا العالم في كل يوم، هو أنفسنا... نفسي هي كل ما أملك».

Ad

كما أطنب المعلق الفرنسي هيرفي جوفين في امتداح هذا التوجه الجديد في التعامل مع الجسد في كتابه «قدوم الجسد» الذي احتل على نحو مفاجئ رأس قائمة أفضل المبيعات. إن جراحات التجميل، وزرع رقاقات الكمبيوتر العضوية، وتثقيب الجسد، كل ذلك يزخرف ويمجد الاعتقاد بأن أجسادنا هي ملكياتنا المتفردة. وفي الوقت نفسه يجزم جوفين بأنه مادام لكل إنسان جسد خاص به فقد تحولت الملكية فجأة إلى عملية ديمقراطية. يبدو أننا نعيش عصراً يشهد أبشع أشكال إخفاق أحلام التنوير، والتقدم، والسلام العالمي، والمساواة بين الأثرياء والفقراء. وذلك، إلى جانب العداوة المنتشرة ضد الأديان المنظمة التي تتجلى في تلك الكتب التي تحظى بشعبية ضخمة مثل كتاب ريتشارد دوكينز «وهم الرب»، والإحباط إزاء المثل الاجتماعية، يعني أننا نتحرك نحو الانغلاق على الذات. ومع غياب الإيمان بالحياة الأبدية الآخرة، فإن المرء يستثمر كل ما يملك في هذه الحياة، في هذا الجسد.

إن طول العمر رغبة كامنة فينا، والشباب الدائم حق مُفترَض لنا، وأسطورة الجسد بلا أصل ولا حدود هي ديننا الجديد. وربما يفسر هذا السبب وراء انتشار الرأي الذي يقول إن الحكومات لابد أن تضطلع بمهمة إيجابية تتلخص في دعم الأبحاث الخاصة بالخلية الجذعية والأشكال الأخرى من أشكال التقدم الطبي. ولقد بدأت الصناعات القائمة على الطب الحيوي تزدهر، بمباركة الحكومة ودعمها، وذلك لأنها تضيف قيمة إلى الجسد، الذي بات ذا قيمة عظمى بالنسبة إلينا.

الحقيقة أن تجديد الجسد على نحو لا متناه لا يقتصر على الإصلاحات السطحية التي تتم بواسطة جراحات التجميل؛ فقد بات من الممكن بالجراحة أيضاً زراعة البدائل الخارجية للمركبات العضوية. الأمر الذي يشكل كسراً للحاجز بين الجسد والعالم الخارجي.

وفي الوقت نفسه أصبحت الأنسجة المأخوذة من الجسم داخلة في التجارة، باعتبارها سلعة مثلها مثل أي سلعة أخرى، في هيئة خلايا جذعية وبويضات بشرية، وغير ذلك من «المنتجات». ويعتقد أستاذ القانون الأميركي جيمس بويل أننا نستطيع فهم الطريقة التي تحوَّل بها جسم الإنسان إلى مادة للتجارة بربط المسألة بعملية «التسييج» التاريخية. ففي بريطانيا في القرن الثامن عشر بدأ تسييج الأراضي لتتحول إلى ملكية خاصة، بعد أن كانت تمثل مورداً عاماً. وبعد التحرر من القيود القانونية ذات الأصول الإقطاعية المفروضة على نقل الملكية والحقوق التقليدية التي كانت تحت يد العوام الذين استخدموا الأراضي المشاع لرعي حيواناتهم، بات من الممكن بيع الأراضي المحتفظ بها بوضع اليد بغرض جمع رأس المال، الأمر الذي ساعد في تمويل الثورة الصناعية.

وفي عالم التكنولوجيا الحيوية الحديث، يرى بويل أن الأشياء التي كانت خارج نطاق السوق، والتي كان من المتصور في ما مضى أن تحويلها إلى سلعة أمر مستحيل، أصبحت الآن خاضعة لعملية خصخصة منظمة. فقد حصل العلماء حتى الآن على براءة اكتشاف واحد من كل خمسة من الجينات البشرية، رغم أن «الجينوم البشري» قد ينظر إليه بعضهم باعتباره ميراثاً مشتركاً للبشر. ورغم أن بويل لم يذكر هذا التطور الأخير، فإنه من المعروف أن دماء الحبل السري، المأخوذة في المرحلة الأخيرة من الوضع، تُحفَظ الآن بواسطة شركات ساعية إلى الربح باعتبارها مصدراً محتملاً -ولو لم يكن مرجحاً- للخلايا الجذعية للطفل الوليد. وفي مجال الطب الحيوي، نجحت سلسلة من القضايا القانونية في توليد قوة دافعة عظيمة نحو نقل الحقوق المرتبطة بجسم الإنسان وأجزائه المكوِّنة من «مالك» فردي إلى الشركات والمؤسسات البحثية. وبهذا دخل جسم الإنسان إلى السوق فتحول إلى رأسمال، تماماً كما حدث مع الأراضي، رغم أن الفائدة لن تعم بأكثر مما أثرى العوام الذين انتزعت ملكيتهم أثناء فترة تسييج الأراضي الزراعية.

إن أغلب الناس يصدمون حين يعلمون أن خُمس «الجينوم البشري» خاضع لبراءات اكتشاف، أغلبها من قِـبَل شركات خاصة. ولكن ما السبب وراء هذه الدهشة كلها؟ ألم تكن أجساد النساء خاضعة لأشكال متنوعة من الملكية طوال العديد من القرون وفي العديد من المجتمعات؟

لا شك أن أجساد النساء تستغل لبيع كل شيء، من السيارات إلى الموسيقى الشعبية. بيد أن الأنسجة الأنثوية تحولت إلى سلعة بطرق أكثر عمقاً وفي ظل أنظمة قانونية، بداية من أثينا وما تلاها منذ ذلك الوقت. ورغم أن الرجال كانوا أيضاً مادة للملكية والتجارة كعبيد، فإن النساء عموماً كُن أكثر عُرضة للمعاملة كسلعة في ظل الأنظمة التي حرَّمت ملكية العبيد. فكانت المرأة بمجرد إبداء قبولها المبدئي لعقد الزواج تُحرم الحقَّ في عدم قبول العلاقة الجنسية إلى الأبد. ثمة أوجه تشابه واضحة بين ذلك الموقف والطريقة التي قدم بها القانون العام أقل قدر من الإنصاف إلى المرضى الذين حاولوا زعم حقهم في ملكية الأنسجة التي أخذت منهم، أو الناشطين الساعين إلى تقييد سلطة صناعة التكنولوجيا الحيوية وسيطرتها على البراءات الخاصة بالجينات الوراثية البشرية.

والآن بات من المفترض في الأجساد كلها أن تكون «ملكية مفتوحة»، تماماً كما كانت الحال مع أجساد النساء دوماً. ولكن يبدو أن الاعتداء على الحرية لا يُـحَس ولا يُـدرَك إلا حين تكون حرية الرجال هي المعتدى عليها. لقد استغرق الناس زمناً طويلاً قبل أن ينتبهوا إلى أن بويضات النساء كانت لازمة بكميات ضخمة لتجريب تقنيات الخلية الجذعية: وهي الظاهرة التي أطلقت عليها «السيدة الخفية». وكثيراً ما تبدو المناقشات الدائرة بشأن قضية الخلية الجذعية، وكأنها قائمة على مقدمة منطقية تفترض الأهمية في حالة الجنين فقط. ومازال العديد من الناس لا يدرك أن بويضات النساء تشكل جزءاً حاسماً من «الاستنساخ العلاجي». وفي المقابل سنجد أن عملية تسجيل براءات اكتشاف الجينات البشرية، والتي تؤثر في كل من الجنسين، أدت -عن حق- إلى توليد إنتاج أدبي ضخم ومناقشات عامة بالغة الحيوية. فهل هي مجرد مصادفة؟ إن عمليات «التسييج» الجديدة للملكية العامة للجينات أو الأنسجة البشرية تهدد بمد عملية تحويل الجسد إلى سلعة لكل من الجنسين. فقد أصبح لكل فرد الآن جسد أنثوي، أو بعبارة أدق جسد مؤنث. وبدلاً من احتفاظنا باستثماراتنا في أجسادنا، أصبحنا جميعاً معرضين لخطر التحول إلى رأسمال: «جسدي أنا، ولكنه رأسمال شخص آخر».

* دونا ديكنسون، أستاذة فخرية للأخلاق الطبية والعلوم الإنسانية بجامعة لندن، والفائزة في عام 2006 بجائزة «سبينوزا لينـز» الدولية لإسهامها في الحوار العام بشأن الأخلاق. وأحدث مؤلفاتها كتاب بعنوان «بيع الجسد: تجارة تتغذى على اللحم والدماء».

«بروجيكت سنديكيت - معهد العلوم الإنسانية» بالاتفاق مع «الجريدة»