في عام 1979 عرضت سينما الجهراء فيلما للمخرج فرانسيس كوبولا بعنوان «القيامة الآن»، للممثل مارلون براندو وهو، أي براندو، سبب ذهابنا لمشاهدة الفيلم بعد أن شاهدناه في فيلم العراب، الذي عرضته ذات السينما كثاني فيلم لها بعد الفيلم «الافتتاحي الكبير!» خلي بالك من زوزو لصلاح جاهين وحسن الامام. يومها لم يكن الوعي يسمح بأن نرى في الفيلم سوى القراءة/ المشاهدة الأولى: فيلم حربي جميل لم يظهر فيه البطل براندو سوى لحظات معدودة. لم نكن نعرف أنه أحد الأفلام الخمسين التي عليك أن تشاهدها قبل أن تموت.

Ad

في عام 2008 اشتريت نسخة معدلة من الفيلم، أضيفت إليها مقاطع لم نشاهدها في النسخة الأولى من أحد محلات أوتاوا لمشاهدته، طمعا في عيش لحظة نولستالجيا أتذكر فيها زمنا مر سريعا منذ ثلاثين عاما، لكن الفيلم أخذني أبعد من ذلك ليدخلني متاهة تداخل النصوص والأجناس الأدبية.

الفيلم كتب اعتمادا على نوفيلا جوزيف كونراد الشهيرة «قلب الظلام» رغم اختلاف الزمان والمكان للعملين. وبقي اسم مارلون براندو في الفيلم يحمل اسم بطل كونراد «كيرتز» جنرال القوات الخاصة الأميركية الذي يصاب بلوثة جنون حرب فيتنام تجعله ينفصل عن الحضارة، ويجمع حوله أتباعا يطيعونه مقيما في كمبوديا المحاذية. أما «كيرتز» كونراد فهو تاجر يذهب الى الكونغو ويصاب بذات اللوثة. كانت نهاية كيرتز مقتولا على يد الضابط ويلارد مختلفة عن موت كيرتز الرواية ولكن الكلمات الأخيرة التي نطقا بها واحدة «الرعب، الرعب».

النص الثاني الذي ساهم في كتابة العمل السينمائي اضافة الى نوفيلا كونراد هو نص الشاعر والناقد ت. س. اليوت «رجال خاوون». هذا النص الشعري كتبه اليوت تحت تأثير عمل كونراد ذاته وجاء السطر الأول «ميتساه كيرتز أحد الموتى».

كان براندو يقرأ مقطعا من القصيدة في النسخة الأصلية للعمل قبل أن يقتل. ولكن طريقته الفاتنة في القائها جعلت كوبولا يطلب منه القائها كاملة ليضيفها الى النسخة المعدلة 2001. وكذلك ردد المصور الفوتوغرافي في الفيلم «دينيس هوبر» المقطع الأخير من القصيدة «هكذا سينتهى العالم... ليس بصرخة مدوية ولكن بالأنين».

تشابك النصوص هذا يقودنا الى تشابك آخر. لقد ركز كوبولا العدسة على الكتب التي يقرأها براندو في معبده الخاص، منها «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر و«من الشعائري الى الرومانسي» لجيسى ويستن و«الانجيل». الكتب الثلاثة كانت المصادر التي اعترف ت.س. اليوت بأنها القاعدة التى بنى عليها قصيدته الشهيرة «الأرض اليباب».

المصور أيضا يردد في الفيلم مقطعا آخر من قصيدة اليوت «أغنية حب لبروفروك» «كان علي أن أكون زوجا من المخالب الخشنة». وحين نكمل الشطر الثاني من البيت «تعدو على قاع البحور الواجمة» نفهم أن الشاعر هنا، وهذا تفسيري وربما كان خاطئا، يصور سلطلعونا يسير الى الوراء وهما أي المصور والشاعر يودان لو أن الزمن يسير الى الوراء.

هذا المقطع يذكرنا بمقطع في مسرحية هاملت لشكسبير حين كان هاملت يخاطب بولونيوس «عليك يا سيدي اذا أردت أن تكون في مثل سني أن تسير الى الوراء كالسلطعون».

شبكة الأجناس الأدبية المختلفة والنصوص الروائية والشعرية والمسرحية ليست وحدها التى أنتجت لنا الفيلم، هناك ملفات كثيرة درسها الممثلون ونقلت من أرشيف الجنرالات في الحرب الفيتنامية وربما نوفيلا كونراد التي صدرت عام 1902 ليست سوى أول خيط نسج في هذه الشبكة.

السؤال الذي يمكن أن نخرج منه بدراسة نقدية نضيفها الى نصوص وأجناس هذه الشبكة هو: ما هي العلاقة بين الجنرال كيرتز والشاعر ت. س. اليوت؟ أما هذا المقال فالهدف منه تقديم تفسير بسيط لمعنى التناص أو تداخل النصوص كما قدمته جوليا كريستيفا اشتقاقا من أعمال باختين بمفهومه الايجابي وليس السلبي كما نتصوره.