الناس متشابهون، لذلك السياسة ممكنة؛ وهم مختلفون، لذلك السياسة ضرورية، على أن السياسة صعبة دوماً، فمن جهة هي تتطلب التسوية بين مصالح اجتماعية متعارضة أو اختلافات بشرية قد تبلغ حد التناقض، ومن جهة أخرى تقضي باتخاذ قرارات صعبة تعود آثارها على حياة كتل بشرية قد تعد بالملايين وعشراتها وربما مئاتها، وبخصوص القوى الكبرى في العالم قد يتأثر بقراراتها سكان الكوكب جميعاً، بل والحياة على الأرض، والسياسة كانت صعبة دوماً، لكنها اليوم «مسؤولة» أكثر من أي أوقات سابقة في التاريخ، مسؤولة أمام المعنيين بقراراتها، ودائرة هؤلاء تتسع حسب موقع السياسي وبلده والسلطات التي يحوزها، وحتى بخصوص الدول الأصغر فإن «ولاية» السياسة تشمل البشرية كلها منذ الآن من الوجهة المعنوية، ولعل السياسة في أزمة عالمية لهذا السبب بالذات، أعني التعارض المتوسع بين الأطر القومية أو الوطنية للدولة وبين عالمية المشكلات وامتناعها على الانضباط بحدود الدول وسلطانها أو سيادتها، ولعل العالم محتاج اليوم إلى اختراقات فكرية تتيح تصور سياسة عالمية وتصوغ إشكاليتها من جهة، وتحرر من الشعور المقعد بالفشل والذنب الذي ربما تملّك مثقفين كثيرين بفعل انقلاب الطوبى الأممية للشيوعية إلى كابوس من جهة ثانية، وهذا ضروري بعد، حتى لا يتحول رصيد إخفاق الشيوعية إلى حساب جهات مثل الإدارات الأميركية وقمة الدول الثماني وما شابه.
وأصعب ما في السياسة الحكم، أي قيادة الدول وسياسة المجتمعات، التسويات هنا أصعب والقرارات أيضاً، والمسؤولية أكبر، والصعوبة أخلاقية وتقنية معا، ثقل المسؤولية وعسر اتخاذ القرار المناسب نظراً لاتساع دائرة المشاركين فيه والمعنيين به، ولأن للقرارات في الدولة الحديثة أبعاداً فنية وعلمية وأخلاقية وحياتية.. معقدة ولا يحيط بها السياسيون المحترفون، وليس هناك وسيلة لتُمسي السياسة الصعبة سهلة، إن أردنا السهولة فربما الأفضل أن نبتعد عن السياسة. وبالأخص عن الحكم. لكن بلى، هناك وسيلة لتسهيل السياسة: العنف، أي فرض مصلحة معينة ورأي معين بالقوة بدل السعي وراء تسويات شاقة، وتسهيل القرارات ممكن بحصرها بيد فرد واحد أو عدد قليل من الأفراد الحاكمين، وعبر فرض قوانين استثنائية وقمع الخصوم والمعارضين ونشر الخوف في المجتمع المحكوم تغدو السياسة سهلة فعلاً، لكن هل تبقى سياسة؟ نحتاج إلى «دورة» من أجل الإجابة عن هذا السؤال. السياسة هشة، وهي صعبة لأنها هشة، ورغم أنها قد تتوسل العنف، فإن هذا مشروط بأن تهيمن عليه، أي أن تكون للسياسة الكلمة الأخيرة، وهذا هو معنى قولة كلاوسفتز الشهيرة التي قلّما تُفهم على وجهها الصحيح: إن الحرب استمرار للسياسة بوسائل مختلفة، فهي تنطوي على رهان أكثر مما هي تقرير لواقع محقق، والمقصد منها السياسة تهمين على الحرب وتحتفظ بالتوجيه والتقرير، وأن العنف مهما اتسع نطاقه أداتي فحسب، وهذا التصور يعكس تقدماً في عقلنة الحرب عن تصور أسبق يجعل إبادة العدو هدفاً أمثل للحرب ومعياراً للنصر، لكن السياسة المروّضة للحرب هذه هشة مع ذلك بسبب انحصار مجالها بين الحرب والحب، أي بين حدين تمتنع في مجاليهما التسويات، الحرب وإغراؤها الضمني الأقصى (أي حين لا تضبطها السياسة) هو محق الخصم، والحب حيث تزول فكرة الخصومة أصلاً وتسود المجانية وتذوب الحدود بين طرفين، في الحرب التسوية متعذرة، وفي الحب التسوية نافلة، مجال السياسة يقارب في منطقه مجال التجارة واللعب من حيث هي جميعاً أنشطة تفاعلية وتبادلية، لا يغويها الحب ومجانيته، لكنها لا تنزلق إلى الحرب ومجانيته المختلفة، وهي تتعامل مع الإنسان لا كمحارب يموت أو يقتل خصمه، ولا كعاشق قد يموت كي يعيش معشوقه، بل مع الإنسان المتوسط في وسطيته وعاديته واجتماعيته، وهي مع ذلك أصعب من الحرب ومن الحب لأنهما «طبيعيان» فيما هي صنعية، لا يحتاج المرء إلى مهارة خاصة كي يحب ولا إلى كثير من الفن كي يقاتل، وبالخصوص لا يحتاج إلى إزاحة ذاته جانباً في الحب والحرب، لكنه محتاج إلى مهارة وصبر وحكمة، وإلى وضع ذاته جانباً كي يكون سياسياً. فعلى السياسي أن يتقمص «العام» كذات خاصة له، وإلا كان سياسياً فاشلاً، وإنما لأن السياسة دقيقة وهشة وصعبة هكذا فإن «تسهيلها» بالعنف يقضي عليها، والأصح أن نتكلم في مثل هذه الحال، أعني إحلال العنف محل السياسة، على حكم القوة المجردة، أو على الطغيان.وحين يُقضى على السياسة يُقضى على السياسيين أيضاً، وعلى الدولة. فالطغيان، أي «الحكم بمقتضى الشهوة والغلبة»، هو أيضاً حكم بلا سياسيين. الطاغية أو طغمة الطغيان لا يسوسون أنفسهم ولا المجتمعات المنكوبة بهم. والطغيان المحدث في صيغة الشمولية، وكذلك النظم التسلطية، هي نظم بلا طبقة سياسية، أفراد مستقلون يعيشون للسياسة ولا يعتاشون منها حسب ماكس فيبر. قد يوجد فيها فريق حكم، لكنه طغمة مغلقة على نفسها، متماثلة مع السلطة وغير مستقلة، ولا سياسة لها غير «العض» على السلطة، فإن غادر أعضاء الطغمة مقاعد الحكم فإلى موت سياسي أو حتى موت جسدي. وبدل الدولة هنا ثمة «ملك»، أو إمارة استيلاء، أو سلطة محض متماثلة بدورها مع فريق الحكم، فإن سقط هذا سقط ملكه وربما سقطت الدولة، لا كمؤسسة حكم فقط، بل أيضا ككيان سياسي تاريخي.* كاتب سوري
مقالات
الطغيان مخرجاً من صعوبة السياسة 1- 2
10-07-2008