في اجتماع فريق من الخبراء العرب، بدعوة من الاسكوا (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا) التابعة للأمم المتحدة ناقش دليلاً لتعزيز المشاركة بين الحكومات ومنظمات المجتمع المدني، واستهدف اجتماع الخبراء الذي انعقد في بيروت عدداً من القضايا التي تندرج في إطار التنمية، منها كيفية مشاركة المجتمع المدني، أي التدخل بالمشاركة كمنهج من خلال التصميم وأساليب التنفيذ، فضلاً عن الجوانب الميدانية، وتهيئة الظروف لمشاركة المجتمع المدني ورسم استراتيجيات لبناء وتطوير القدرات المؤسسية والفردية، من خلال الأطر القانونية الضرورية للإسهام في صنع القرار، واستخدام المراصد الاجتماعية كأداة لتعزيز المشاركة بين الحكومات ومنظمات المجتمع المدني في السياسات العامة، مع التأكيد على دور الإعلام وفاعليته للوصول إلى ذلك.

Ad

ولعل الإطار المرجعي لاجتماع الخبراء استند إلى عدد من المؤتمرات الدولية، منها مؤتمر القمة العالمي للتنمية المنعقد في كوبنهاغن العام 1995 ومؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة المنعقد في جوهانسبورغ العام 2002 ومؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية العام 2005 الذي أكده قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1/60، وهذه المرجعيات جميعها أكدت دور المجتمع المدني وبناء الخبرات وتطويرها وتعزيز التنمية المستدامة بالقضاء على الفقر وتحقيق المساواة بين الجنسين وغيرها.

وكانت قمة كوبنهاغن منعطفاً في الفكر التنموي، لاسيما بعد اعتبار الحق في التنمية أحد الحقوق الأساسية الفردية والجماعية، التي لا تستقيم مسألة حقوق الإنسان من دونها لضمّها إلى حزمة الحقوق التي لا يمكن تجزئتها أو إهمال عناصر منها.

وهكذا يمكن تصنيف الحق في التنمية باعتباره من الجيل الثالث لحقوق الإنسان، التي تعززت بالحق في السلام والحق في بيئة نظيفة والحق في الاستفادة من منجزات الثورة العلمية-التقنية، وهذه كلها تعميق وتعزيز لحقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتطوير لها في منظومة من الحقوق الفردية والجماعية تلك التي كان الصراع حولها مستمراً منذ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العام 1948 واحتدم خلال صدور العهدين الدوليين العام 1966، حيث كان المعسكر الغربي يميل إلى الحقوق الفردية والسياسية والمدنية، ويهمل إلى حدود غير قليلة الحقوق الجماعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في حين أن المعسكر الشرقي كان يدعو للحقوق الجماعية، ويتشبث بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي يعطيها الأولوية على حساب الحقوق الأخرى التي يعتمدها الغرب.

ولكن بعد صدور إعلان الحق في التنمية في الثمانينيات وتكريس ذلك دولياً وانعقاد مؤتمر قمة كوبنهاغن التزم 117 رئيس دولة «بخلق تنمية اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية وقانونية، تتيح لكل المجموعات البشرية بلوغ النمو الاقتصادي» وهو الأمر الذي لا يتحقق بصورة سليمة من دون شراكة المجتمع المدني وهو ما أخذت الامم المتحدة تؤكد عليه وتدعو الدول والبلدان لاعتماده بدعوة منظمات المجتمع المدني لحضور اجتماعات موازية.

وإذا كانت منظمات المجتمع المدني هي جمعيات ومؤسسات غير حكومية متنوعة الاهتمامات ومتعددة الاختصاصات، فهي طوعية وحرّة وسلمية ومستقلة كما أنها غير وراثية ولا تهدف إلى الربح، ولعل من أهم أهدافها هو تحقيق التنمية بجميع جوانبها في المجتمع، الأمر الذي يمكن اعتبارها شريكاً ومكملاً للحكومات في رسم وتنفيذ السياسات العامة وفي اتخاذ القرار من جهة، ومن جهة أخرى رصد ومراقبة الانتهاكات والتجاوزات وقضايا الفساد التي تشكل معوّقاً من معوّقات التنمية، ولعل طموح المجتمع المدني يزداد اتساعاً حين يسعى لكي يكون قوة اقتراح واشتراك وتفاعل، وليس قوة احتجاج أو اعتراض أو تنافر فحسب.

وإذا كانت ثمة معوّقات تحول دون وصول المجتمع المدني فيما يطمح إليه، فإن حداثة التجربة لاسيما في عالمنا العربي وتدنّي مستوى القدرات وضعف التكوين وغلاظة بعض التشريعات وشحة الحريات، خصوصاً حرية التعبير وحق التنظيم الحزبي والنقابي والاجتماعي وحق الاعتقاد، كلها عوامل تعرقل في تحقيق شراكة المجتمع المدني مع الحكومات.

ولعل مثل هذه القضايا تتشابك مع المعوّقات التي تحول دون تحقيق التنمية المستدامة، ومنها عقبات خارجية مثل الاحتلال والحصار والعدوان ومحاولات فرض الاستتباع، ومنها عقبات داخلية مثل الموروث والعادات والتقاليد واستخدام الدين وتعاليمه السمحاء على نحو خاطئ وضار وباسم الإسلام أحياناً، وهو ما نطلق عليه مصطلح الإسلاملوجيا، كما أن تفشي الفقر ونقص الثقافة ونقص المعرفة بما فيها استشراء الأمية، ناهيكم عن وجود عدد من الأنظمة الانغلاقية والاستبدادية، التي بطبيعة الحال تقف أمام مبادرات المجتمع المدني بصورة سلبية.

وإذا كانت تلك العوامل عقبة أمام التنمية الموعودة، فإن ضعف المواطنة وتصارع الهويات، بين هوية كبرى أحياناً وهويات فرعية لا يتم الاعتراف بها، سواءً كانت قومية أو دينية أو لغوية أو سلالية، وعدم توافر عنصر المساواة كأساس للدولة العصرية، يحول دون الوصول إلى شاطئ التنمية المنشود، مضافاً إليه استمرار ظاهرة التمزق المجتمعي مذهبياً وطائفياً وعشائرياً وجهوياً، بما يؤدي إلى عرقلة عمليات التنمية، بوضع الكوابح أمام مشاركة المجتمع المدني للحكومات باتخاذ القرار، كما أن عدم تلبية حقوق الأقليات وعدم تمكين المرأة ومساواتها مع الرجل وعدم الإقرار بالتعددية والتنوّع عوامل أخرى تؤدي إلى عدم تحقيق التنمية الموعودة.

من هنا تأتي دراسة العديد من المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي واليونسكو والاسكوا، لدور المجتمع المدني ومدى إمكاناته بالمساهمة في التنمية، بحيث تصبح التنمية الغائبة قائمة والمستحيلة ممكنة والمفقودة موعودة، ولا شك أن ذلك يتطلب أيضاً ومن خلال الضغط موافقة الحكومات وقبولها بهذا الدور وكذلك الجماعات السياسية والتنظيمات القائمة في المجتمع دينية أو سياسية، وعلى المجتمع المدني أن يكون هو الآخر جاهزاً ويسعى إلى معالجة مشكلاته وثغراته من خلال جاهزية فكرية وأجندات وطنية تلبي احتياجات الجمهور، ومن خلال عمل ديمقراطي طويل الأمد ومتراكم وسلمي، فالمجتمع المدني لا يسعى للوصول إلى السلطة وليس لديه ميليشيات ولا ينبغي أن يقتصر على طائفة أو طبقة أو دين كما أن الانتماء إليه طوعي، وعليه ألا ينخرط في الصراع الآيديولوجي والعقائدي الدائر في مجتمعاتنا ويعمل وفقاً للقوانين والأنظمة السائدة ولا يلجأ إلى العمل السري، وإذا كانت الحركات والأحزاب السياسية تريد التغيير عبر الوصول إلى السلطة فإن المجتمع المدني يريد تغيير المعادلات السياسية لتكون أكثر توازناً.

إن ذلك ما يجعله شريكاً حقيقياً في التنمية، وهو ما تنبهت له الأمم المتحدة ومنظماتها التي أخذت تدعيه إلى القمم العالمية كشريك، وهو ما فعلته جامعة الدول العربية أخيراً في مؤتمر قمة الكويت، والذي يحتاج إلى اعتماده دورياً في جميع القمم العربية بصورة دائمة.

 

* باحث ومفكر عربي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء