كان المملوك " سنجر الشجاعي” مصيباً عندما اختار لنفسه نعتاً يسبق اسمه، مركباً أوله من كلمة "علم” فقد كان كما برهنت الأيام أحد أعلام زمانه، ولكنه تجاوز الحقيقة كثيراً عندما أضاف إلى ذلك النعت لفظ "الدين” لأنه في الواقع كان علماً على أشياء كثيرة ليس من بينها "الدين” أي دين.

Ad

وعلم الدين سنجر الشجاعي من الرعيل الأول للمماليك البحرية الذين اشتراهم الملك نجم الدين أيوب الأيوبي صغاراً من أواسط آسيا، وشرع في تعليمهم فنون الحرب وتلقينهم تعاليم الإسلام في قلعته التي شيدها في جزيرة الروضة بوسط مجرى نهر النيل فيما بين الجيزة والفسطاط (مصر القديمة الآن).

ولما نجح المماليك في اغتيال "توران شاه” آخر سلاطين الدولة الأيوبية، انتقل الحكم اليهم في مصر والشام، فكان من هؤلاء الأرقاء السلاطين والأمراء، ومن بينهم هذا الأمير علم الدين سنجر.

وكما جمح سنجر بين طرفي نقيض (الرق والإمارة)، تعايشت في نفسه نزوتان متباينتان فقد كان محباً وعاشقاً لكل ما هو جميل من فنون العمارة والزخرفة، وتجذب انتباهه دائماً تلك النماذج الفنية الرفيعة حتى في أوقات الحروب أو وسط مظاهر الدمار والخراب.

أما بالنسبة للبشر، فإن علم الدين لم يظهر تجاههم أي قدر من الاحترام والعطف الذي أولاه للأحجارالصماء، خاصة إذا ما تعلق الأمر بتشييد عمارة جديدة يرى في عناصرها الإنشائية والزخرفية ما يرضي ذوقه الفني الرفيع وحسه المعماري المرهف. فالأحجار أولاً والإنسان أخيراً .

وفي ذلك كان الشجاعي المثال الأول لمقاولي الهدد والأنقاض في عصرنا الحديث فما يهمه ويشغل باله هو اكتشاف أفضل ما في المباني القديمة والاستيلاء عليه ليحمل إلى مبنى جديد دونما اعتداد بحقوق أو مصائر أصحاب المنشآت العتيقة أو حتى سكانها.

وعند تشييده لعمارة جديدة، فإن تسخير الصناع والعمال عد في نظره من ضرورات الإنجاز السريع والمحكم لتصوراته الفنية، وكأنه يتحرق شوقاً لرؤية تحفته المعمارية ماثلة أمام عينيه بين عشية وضحاها.

وإذا كانت هناك عبارة واحدة تلخص هذا التناقض في شخصية "سنجر” بين الرقة مع الأحجار والفظاظة مع الإنسان ، فإن هذه العبارة ولا شك سوف تومئ إلى الحقيقة الخالدة في سيرته الذاتية، "مبان عظيمة وضحايا أعظم”.

في حياة الأمير علم الدين محطات من "الحب الحجري” ، أشهرها محطتان أولاهما في جزيرة الروضة بالقاهرة وثانيتهما في عكا بفلسطين.

فمن المعروف أن هذا الأمير ربيّ صغيراً في قلعة الروضة التي شيدها الملك نجم الدين أيوب، ويظهر أن مراتع الصبا وذكرياتها ظلت عالقة في ذاكرته بقوة إلى أن أصبح مسؤولاً عن العمارة والتشييد إبان سلطنة الملك المنصور قلاوون، وكله السلطان المملوكي بالإشراف على بناء مجموعته المعمارية القائمة الآن بشارع بين القصرين بالقاهرة.

فقد تذكر سنجر كل ما رأته عيناه وهو بعد صبي صغير من روائع فن العمارة بقلعة الروضة فشرع في نزعه من مكانه ونقله إلى عمارة السلطان، إما تقربا لسيده الجديد، حيث لن يجد ما هو أفضل من هذه الأنقاض، رخاماً وزخرفة، ناهيك عن قلة التكلفة، وإما سعياً لتخريب المكان الذي ما برح يذكره بأيامه الأولى في الرق، وخشونة الحياة العسكرية التي أرادها الملك الصالح لمماليكه البحرية.

أما المرة الثانية التي وقع فيها الأمير علم الدين أسيراً في حب الأحجار فكانت في مدينة عكا عشية تطهيرها من دنس الاحتلال الصليبي في السابع عشر من جمادي الأولى عام 690هـ، في هذه المرة كان سنجر مكلفا من قبل السلطان الأشرف خليل بن قلاوون بهدم الأسوار والكنائس الصليبية وإحراقها، ورغم رائحة الموت التي كانت تنبعث نفاذة من عشرة آلاف جثة صليبية ملقاة في طرقات عكا، وسحب الدخان ورائحة الدم وأنات الجرحى التي كانت تغطي سماء المدينة بسحابة من الكآبة، ورغم ذلك كله فإن عينه العاشقة للجمال لمحت تحفة معمارية من الرخام الأبيض الناصع تتوسط واجهة إحدى الكنائس التي شيدها المحتلون بالمدينة.

كانت تلك التحفة مدخلاً لكنيسة بنيت على الطراز القوطي الذي كان شائعاً في أوروبا لمدة خمسة قرون كاملة (11-16م)، وقد قدر لهذا المدخل أن يكون الشئ الوحيد الذي نجا من المجزرة المملوكية التي شملت كل ناطق وجماد يمت للاحتلال الصليبي بأي صلة، والفضل في ذلك عائد لمقاول الهدد سنجر الشجاعي الذي خلع مدخل الكنيسة الرخامي وحمل أجزاءه على الجمال من عكا إلى منزله بالقاهرة.

وقد ظل المدخل الرخامي حبيس المخازن متنقلاً من ورثة سنجر الشجاعي إلى غيرهم حتى استقر لدى ورثة الأمير بيدرا عام 697هـ ، ومنهم أخذه السلطان العادل كتبغا ليضعه في مدرسته التي بدأ في عمارتها لصق مجموعة المنصور قلاوون وهي التي أشرف سنجر الشجاعي على تشييدها من قبل .

وما زال باب كنيسة عكا يتوسط المدرسة التي اشتهرت بالمدرسة الناصرية بعد أن انتقلت ملكيتها للسلطان الناصر محمد بن قلاوون الذي أكمل عمارتها في عام 703 هـ .