حسب الذين رافقوا تلك الفترة من التاريخ فإن الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون بعد فوزه في انتخابات عام 1992 على منافسه جورج بوش (الأب) وضع على رأس أولوياته ضرورة التخلص من مأزق العراق، الذي ورثه من سلفه، ليتفرغ للمشاكل الداخلية المتفاقمة التي هي في العادة الدليل على نجاح كل من ينـزل البيت الأبيض أو فشله.

Ad

كان مارتن إنديك، اليهودي الأسترالي، الذي جاء الى الولايات المتحدة في عام 1984، وبدأ فوراً بارتقاء سُلَّم أعلى المناصب وأهمها وأخطرها، قد أصبح مستشار كلينتون لشؤون الشرق الأوسط، وقد أقنعه بضرورة مد قنوات اتصال مع الرئيس العراقي في ذلك الحين صدام حسين، على أساس أنه: «إذا اهتدى الإنسان فنحن نصفح عنه... وانه من الممكن أن يهتدي الإنسان حتى وهو على فراش الموت!».

وبالطبع فإن صدام حسين لم يهتدِ الهداية التي كان يريدها كلينتون، وكان يقصدها مارتن إنديك، لذلك فإن العلاقات المتردية بين العراق والولايات المتحدة ازدادت سوءاً، وشهدت فترة حكم هذا الرئيس الأميركي التي امتدت ثمانية أعوام تصعيداً متلاحقاً ومتتابعاً اتخذ في معظم الأحيان طابع أقسى الهجمات العسكرية وأشدها تدميراً، بحيث انه عندما جاء جورج بوش (الابن) الى الحكم كانت كل المبررات والحيثيات جاهزة للحرب التي شنها على العراق قبل ستة أعوام.

الآن يلوِّح باراك أوباما بهذا الشعار نفسه (إذا اهتدى الإنسان فنحن نصفح عنه... وانه من الممكن ان يهتدي الإنسان وهو على فراش الموت) للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد من قبيل التودد، وعلى الطريقة القديمة عندما كان «تضبيع" الضبع من أجل اصطياده يقتضي ان يدخل الصياد الى مغارته ويستدرجه بالمزيد من الليونة واللطف الى الخروج منها، ليقع في الشرك المنصوب له في الخارج.

وحقيقة ان هناك بوناً شاسعاً بين وضع العراق في بدايات تسعينيات القرن الماضي، حيث كان محاصراً ومحارباً ومعزولاً على أثر كارثة احتلال الكويت وإخراج القوات العراقية منها، ووضع إيران الآن حيث تشعر أنها في حالة هجومٍ وليست في حالة اندحار وهزيمة وتراجع، وأنها تقبض على أميركا من الذراع التي تؤلمها، ولهذا فإذا كان «تضبيع" صدام حسين قد فشل في ذلك الحين مرة واحدة فإن «تضبيع" محمود أحمدي نجاد سيفشل ألف مرة.

فإيران، التي لعبت اللعبة مع الولايات المتحدة على طريقة «دهاقنة" الفرس القدماء، تمكنت من خلال تقديم التسهيلات التي أرادها الأميركيون لغزو أفغانستان أولاً وغزو العراق ثانياً، من وضع أميركا على الرصيف الذي تريده، وها هي تستمتع الآن بابتزازهم سواء في سهوب وسهول بلاد الرافدين المـوحلة أو في جبال هنديكوش ووادي خيبر ومتاهات حيرات وقندهار.

إنه على باراك أوباما، الذي ما ان انتقل الى البيت الأبيض حتى وجد نفسه أمام تركة ثقيلة سواء على صعيد الوضع الداخلي أو على صعيد الجبهة الخارجية، ان يفهم أنه إذا كان مثله الأعلى بيل كلينتون قد فشل في إقناع صدام حسين بـ«الهداية" التي أرادها حتى عندما أصبح على فراش الموت، فإن «الهداية" التي يريدها من محمود أحمدي نجاد تبدو بعيدة جداً ومحصنة بثمن فادح، إن قبلت الولايات المتحدة دفعه فإنها ستضع نفسها على بداية طريق خسارتها تفوقها ومكانتها الدولية، وعودتها لتصبح مجرد واحدة مـن هذه الدول الكبرى.