قبل نصف قرن كانت المدارس تحتفل بالمناسبات والأعياد الوطنية والقومية وكانت تدعو أحيانا بعض شيوخ وأعيان القرية الى حضور هذه الاحتفالات ومشاهدة أبنائهم وهم ينشدون ويشاركون بإلقاء الخطب والقصائد. ومازلت أتذكر ذلك الشيخ الذي هزه الحماس وأبهجه، فاندفع إلى منصة الخطابة لكي يهتف «عاش جلالة الملك جمال عبدالناصر».

Ad

أخجلني هتاف الرجل الذي كان واحدا من الأقارب، وأغضبني إعصار الصفير والتصفيق والضحك، فذهبت إلى منزل الشيخ بعد انتهاء الحفل لكي أبلغه أن العهد الملكي قد انتهى، وأن الملك فاروق كان آخر ملوك مصر، وأن جمال

عبدالناصر هو رئيس للجمهورية فقط وليس ملكا، وأن الشعب يستطيع أن ينتخب غيره بعد انتهاء فترة رئاسته. أنصت الرجل مبتسما ثم قال «أنتم تلاميذ لا تعرفون الكثير... وكتبكم تخدعكم، لكنني رجل عجوز وأعرف أن الرئيس ملك، والسلطان ملك، وأي كلام آخر هو ضحك على الدقون».

ومرت مياه كثيرة في النهر، ورحل جمال عبدالناصر ورثاه الشعراء والكتاب ورجل الشارع والملوك والرؤساء، والتصقت بالذاكرة عبارة الرئيس اللبناني في ذلك الوقت «شارل حلو» الذي قال «مات ملك العرب».

ثم جاء السادات ليمنح نفسه لقب كبير العائلة، ويختصر مصر في شخصه، ويسن «قانون العيب» ليحاكم به مَن يعارضه بتهمة إهانة مصر، وليغيّر مادة في الدستور كانت تحدد فترة الرئاسة بمدتين فقط لتصبح مددا متتالية، ولكي يصفِّي -واقعيا- النظام الجمهوري الذي يرتكز على الديمقراطية والحراك السياسي وتداول السلطة.

وأظننا بعد أكثر من نصف قرن على قيام الجمهوريات في العالم العربي مازلنا بعيدين تماما عن روح النظام الجمهوري وجوهره، ويكفي أن ننظر حولنا لكي نرى رؤساء تولوا السلطة قبل ما يقرب من أربعين أو ثلاثين سنة وآخرين منحوا أنفسهم ألقاب القائد، والرائد، والمعلم، والأمين، والحكيم، والملهم، وآخرين شخنا وشاخت البلاد في عهودهم.

شاعر عربي صديق ضاحكني مرة قائلا: «أنت محظوظ فقد درست في عهد

عبدالناصر، وعاصرت رئيسين بعده... بينما درست أنا وتخرجت وعملت وتقاعدت بعد أكثر من ثلاثين سنة في عهد رئيس واحد».

الاستبداد والإفساد والاعتماد على الحزب الواحد والصوت الواحد، ومن ثم «تجريف» الحياة السياسية وإبادة البدائل وشراء الولاء ملامح عامة لجمهورياتنا ونظمنا التي تعيش الآن تحت راية «أنا أو طوفان الفوضى». فالبدائل السياسية القادرة على الوقوف وقيادة البلاد لا وجود لها بعد نجاح هذه النظم في تحويل أحزاب المعارضة إلى صحف، والمعارضين إلى أشباح، ونسبة كبيرة من المثقفين والسياسيين إلى دمى ورجال لكل العصور.

بعض أقطاب الحزب الوطني ولجنة السياسات في مصر ممن يرفعون الآن راية الخصخصة والبيع ويهللون للتوحش الرأسمالي، كانوا في الستينيات من أبرز قادة الاتحاد الاشتراكي وأعضاء في التنظيم الطليعي ومن بناة القطاع العام الذين بدلوا ولاءهم وراياتهم ليظلوا دائما بالقرب من الرئيس وحاشيته والمستفيدين من بقاء نظامه.

ولأننا أبناء تراث يبجِّل ولي الأمر ويحض على طاعته، ظل الرئيس محاطا بحسن ظن معظم المواطنين. فرجل الشارع يحلم دائما بمقابلته ليضع أمامه صورة حقيقية للواقع ويحدثه عن معاناة الناس وسوء أحوالهم ويحذره في الوقت نفسه من أعوانه وحاشيته والمحيطين به الذين يخدعونه ويكذبون عليه ويحجبون عنه الحقائق.

ولا يختلف المبدعون كثيرا عن رجل الشارع، فأغلب الأعمال الإبداعية التي انشغلت بتوحش الفساد وانتشاره، تكتفي بتقديم عالم رجال الأعمال وكبار الموظفين المرتشين وتحجم عن الغوص والحفر وفضح أصول الفساد وجذوره. في المقابل انشغل كتاب أميركا اللاتينية الكبار بالديكتاتور زارع الفساد والجمود والقمع... وأذكِّر هنا بروايات ماركيز- كارلوس فوانتيس- إيزابيل أليندي- أستورياس، وغيرها.

الرئيس الملك... هو الإنجاز الذي انفرد به العالم العربي في نصف القرن الأخير. الرئيس الذي عليه فقط أن يصل إلى السلطة بالمصادفة أو بوضع اليد أو بوسيلة ما، لكي يظل في موقعه حتى يشيخ وتشيخ البلاد معه. ولأنهم ملوك كان علينا أن نتوقع ظهور أولياء عهودهم وورثتهم الذين شبوا وتأهبوا في السنوات الأخيرة لاستلام التركة.

* كاتب وشاعر مصري