مذكرات فؤاد بطرس شد الحبل مع السوريين دخل ضمن التجاذب العربي - العربي خدام هدد بالانسحاب فردَّ الحسن الثاني: الأبواب مفتوحة وكذلك المطار صائب سلام: يخططون لقتلي وقتل السفير السعودي علي الشاعر وياسر عرفات الحلقة الثانية عشرة

نشر في 27-08-2008 | 00:00
آخر تحديث 27-08-2008 | 00:00
عند عودتي لمزاولة مهامي بعد إجرائي عملية القلب في نيويورك، شعرت بأن السوريين لا يزالون مستائين من الرئيس شفيق الوزان لمواقفه المتكررة المساندة لتوجهات الحكم خصوصا موقفه من مضمون «ورقة العمل اللبنانية» التي طالبنا فيها بانسحاب قوات الردع العربية من بيروت وضواحيها قبل أن يحين موعد الاستحقاق الرئاسي. لقد أعطى صمود الرئيس الوزان أمام ضغط السوريين أملاً كبيراً للبنانيين، في أن يتمكنوا من إحياء الميثاق الوطني الذي مكّنهم قبل نحو أربعين عاماً من وضع حد للانتداب الفرنسي.

وبعدما تبين لنا وللجنة المتابعة العربية أن البحث في عمق المسألة اللبنانية أمر متعذر في ذلك الوقت بنتيجة الموقف السوري السلبي حيال استعمال الجيش اللبناني وتداعيات أزمة صواريخ السام، سعينا إلى بعض الإجراءات التي من شأنها أن تهدئ الأجواء، وتعيد بعض الثقة والاطمئنان إلى المواطنين.

قمة فاس

عقدت لجنة المتابعة العربية دورتها الخامسة في قصر بعبدا، في الثامن من تشرين ثاني (نوفمبر) 1981، وكانت أشبه بمهزلة المهازل، إذ جدد السوريون خلالها رفضهم استخدام الجيش اللبناني لفرض الأمن، واستمعوا دون تعليق إلى تقرير تلاه رئيس الجمهورية حول كميات الأسلحة التي وصلت إلى المقاومة والحركة الوطنية في غضون الشهرين الأخيرين. وفي النهاية، قررت لجنة المتابعة العربية وضع مخطط لتنفيذ قرار تشكيل هيئة الرقابة على الشواطئ والمرافئ اللبنانية، ووضع عناصر من القوى الأمنية في تصرف رئيس الحكومة تكون مهمتها حفظ الأمن في الجانب الشرقي من خط التماس الممتد من السوديكو والمرفأ، واستكمال فتح جميع المعابر والطرق بين شطري العاصمة، وتأكيد ضرورة التزام وقف النار بشكل كامل على جميع الأراضي اللبنانية.

واستعداداً لاجتماع وزراء الخارجية العرب في فاس المقرر في الثاني والعشرين من تشرين ثاني (نوفمبر)، طلبت من دوائر وزارة الخارجية إعداد ملف عن الجنوب، وقمت بإعداد كلمتين واحدة للافتتاح بصفتي رئيساً للدورة وواحدة باسم لبنان.

صباح الحادي والعشرين من تشرين ثاني (نوفمبر)، غادرنا لبنان إلى تونس. وافتتحتُ ظهر اليوم التالي المؤتمر بخطاب طغت عليه النفحة الوجدانية استعرضت فيه مواضيع المؤتمر. وتنحيت في ختامه عن رئاسة المؤتمر لنظيري المغربي حتى أتمكن من إلقاء كلمة لبنان والدفاع عن مصالحه. وتكلم بعدي في جلسة الافتتاح وزير الخارجية المغربية والأمين العام لجامعة الدول العربية الشاذلي القليبي. ثم عقدت جلسة مغلقة دار فيها البحث حول جدول الأعمال، وطلبت ليبيا رفض إدراج مشروع الأمير فهد «لأنه يشكل اعترافاً عربياً جماعياً بإسرائيل من دون الحصول على أي مقابل». ورد عليه الأمير سعود الفيصل، ثم تكلم عبدالحليم خدام عن الأولويات. بعد ذلك، ألقيت الكلمة الأولى في المؤتمر عددت فيها المعطيات القائمة في لبنان لاسيما في الجنوب «لئلا يقال إننا نمارس سياسة النعامة»، وأهمها:

- النشاط العسكري الذي تنفرد المقاومة الفلسطينية بالقيام به خصوصاً في جنوب لبنان، وخضوع بعض المناطق اللبنانية لسيطرتها، ناهيك عن تجاوزها الاتفاقات.

- تحمل لبنان وحده منذ سنوات، لا سيما منذ آذار (مارس) 1978 وزر الحرب بين العرب وإسرائيل، بينما تنعم الجبهات الأخرى بالهدوء.

ثم طرحت العديد من الأسئلة حول المعطى الأخير، مستعرضاً الأجوبة المحتملة عليها مدللاً على أنها غير مقنعة.

ثم تلوت ورقة العمل اللبنانية التي طالبت بوضع استراتيجية عربية شاملة موحدة حول الجنوب، وبتكليف هيئة مصغرة ترتبط مباشرة بالأمين العام لجامعة الدول العربية تعكف على وضع مشروع لهذه الاستراتيجية مع تحديد مهلة ثلاثة أشهر لإنجاز مهمتها. علّق ممثل فلسطين على كلمتي بالقول إن إسرائيل لا تحتاج إلى مبرر لضرب لبنان، أما عبدالحليم خدام فعزا الاعتداءات الإسرائيلية إلى نيات تل أبيب التوسعية، وليس إلى وجود الفلسطينيين وقوات الردع في لبنان، أما ممثل العراق سعدون حمادي فدعا إلى إعادة تكوين قوات الردع العربية بحيث «تصبح عربية حقيقية»، وإلى دعم السلطة الشرعية اللبنانية. وكان لافتاً ألا يرد ممثل سورية على حمادي، وعزا بعض المشاركين السبب إلى عدم رغبته في إثارة العراق الذي لم يكن مؤيداً لمشروع الأمير فهد الذي كان يشكل جوهر الخلاف بين جبهة الرفض من جهة ودول الخليج ومعظم الدول العربية من جهة ثانية. وقد حرصت على عدم اتخاذ موقف يُشتّم منه تأييد لهذا الفريق أو ذاك لأنني إذا أخذت موقفاً مؤيداً لمشروع الأمير فهد انفجر الوضع فوراً في لبنان، وفي المقابل، لا يمكنني ضميرياً أخذ موقف ضد المشروع من أجل مسايرة سورية وإرضائها. لذلك ارتأيت التمسك بمبدأ الحياد الإيجابي الذي على لبنان تبنيه كلما وقع خلاف بين العرب.

تهكم ملكي

في هذا الجو المكفهر، وصل الرئيسان سركيس والوزان بعد ظهر الرابع والعشرين من تشرين ثاني (نوفمبر) للمشاركة في أعمال القمة المقررة في اليوم التالي. وكما كان متوقعاً انفجر الخلاف بين جبهة التصدي ودول الخليج وحلفائها، وكادت الجبهة أن تطيح بالفريق المعتدل لولا تدخل الملك المغربي الحسن الثاني بطريقة ذكية وقوية أثارت إعجابي ودفعتني إلى الاقتراب منه وتهنئته على مهارته في إدارة الجلسة وأدائه الذي أظهره يومذاك كرجل دولة كبير. أما النقطة الأولى التي أثارها العاهل المغربي فهي مستوى التمثيل وعدم حضور بعض الرؤساء وعدم تمثلهم بالرقم اثنين في دولتهم، مشيراً إلى سورية وليبيا والجزائر بصورة خاصة. واستند إلى مؤتمر القمة الأخير في عمان حيث تقرر أن تتمثل الدولة إما برئيسها، وإما بمن يليه مباشرة في سلم المسؤوليات. وكانت لهجة الحسن الثاني لا تخلو من التهكم لا سيما بالنسبة إلى سورية، خصوصاً عندما طلب عبدالحليم خدام الكلام وتوجه إلى الملك بالقول: «سيدي الرئيس إني مفوض بأن أمثل سيادة الرئيس السوري، وإذا كان ذلك لا يروق للمؤتمر فإني على استعداد للانسحاب»، فبادره الملك المغربي فوراً بالرد قائلاً: «إن الأبواب مفتوحة بوجهك وكذلك المطار، نحن لا نطرد أحداً ولكننا لا نمنع أحداً من المغادرة».

ثم تكلم الأمير فهد وقال إن المسؤولين السعوديين لم يرغبوا في إحراج أحد أو في التقدم بمشروع بالمعنى المتعارف عليه، مشيراً إلى أنهم طرحوا أفكاراً «وإذا كان ذلك يلقى معارضة، على ما يبدو، وقد وصل الأمر إلى حد التجريح غير المقبول، فإننا نسحب المشروع من التداول». وتلاه رئيس منظمة التحرير وتمنى ألا يتوقف الملك عند الشكليات ثم أصر على ألا يُسحب مشروع الأمير فهد من التداول داعياً إلى درسه بعمق. وبدا عرفات مرة جديدة لاعباً على أكثر من حبل ولكن استُدل من كلامه أنه ميّال للمضي فيه إذا أدخلت تعديلات عليه. أتى جواب العاهل المغربي أيضاً لاذعاً، إذ قال له إنه لا يقبل أن يلقنه أحد درساً، مضيفاً: «ربما قبل سواي بذلك أما أنا فلست مستعداً لأن أقبل درساً». فاعتذر عرفات في الحال قائلاً إنه لا يلقنه درساً بل يأخذ منه دروساً.

«شيك» عرفات

قبل انفضاض الاجتماع، ألححنا الرئيس الوزان وأنا، على الرئيس إلياس سركيس ليطلب الكلام من أجل إثارة موضوع جنوب لبنان حتى لا يضيع في خضم السجالات القائمة، فأبدى الرئيس تردداً في بداية الأمر نظراً الى جو التوتر السائد. ولكن حيال إصرارنا عليه، ألقى كلمة موجزة طلب فيها أن يقر المؤتمر التوصية المتعلقة بجنوب لبنان. وبنتيجة الأخذ والرد، ونظراً الى موقف الملك الحسن الثاني، أقرت التوصية، وشكلت القرار الوحيد الذي اتخذه مؤتمر القمة. حاول

أبوعمار أن يعرقل الأمر عبر إثارة مسألة دعم الصمود الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة، طالباً إقرارها أيضاً، فأجابه العاهل المغربي: «إن هذا الموضوع كناية عن شيك تستطيع أن تأخذه خارج المؤتمر»، وانتهى الأمر عند هذا الحد ولزم عرفات الصمت.

في اليوم التالي، استقبل الرئيس سركيس عبدالحليم خدام الذي أبدى عتباً علي أمامه لأني لم أتكلم في موضوع مشروع الأمير فهد. ثم زاره وزير الخارجية الجزائرية بحضور الرئيس الوزان وحضوري. وبعدما تكلم الرئيسان، وجدت أنه من الضروري أن أعرض الموقف اللبناني بطريقة دبلوماسية مباشرة فقلت:

نحن نشكو من أمرين أساسيين، وكل مشكلة أخرى عندنا ناتجة عنهما: سورية التي تعرقل كل شيء وتحرك كل شيء، والمقاومة التي تسيطر على جزء كبير من لبنان وتتحكم به ريثما تستعيد أرضها. المطلوب من الجزائر أن تعرف ماذا تريد سورية بالتمام، فنرى إذا كان يمكننا أن نتجاوب مع متطلباتها. والمطلوب منها أيضاً أن تحمل المقاومة على الانضباط والانكماش كي نستطيع أن نتعايش معها.

رفض التمديد

غادرنا المغرب في السابع والعشرين من تشرين ثاني (نوفمبر) إلى لبنان عبر جنيف حيث بقي رئيس الجمهورية لإجراء بعض الفحوص الطبية نظراً لما كان يعاني ارتفاعا في ضغط الدم. وهناك قال لي السفير سعيد الأسعد إن لمياء الصلح، زوجة شقيق الملك المغربي، اتصلت به ونقلت عن الملك الحسن الثاني قوله إن الوهن كان بادياً على محيا الرئيس سركيس وإن «الأسد الحقيقي في الوفد اللبناني هو الوزير فؤاد بطرس»، كما أن أمير قطر قال لي كلاماً بهذا المعنى أيضاً، ولكنني كنت دائماً أعزو أدائي إلى تجانسنا وتضامننا، الرئيسين سركيس والوزان وأنا، وإلى حسن تعاطيهما وثقتهما بي.

عاد رئيس الجمهورية من سويسرا في الخامس من كانون الأول (ديسمبر)، فزاره فيليب حبيب في اليوم التالي ليؤكد له أن السعودية لن تتخلى عن التزاماتها بالنسبة إلى لبنان. وفاتحه سراً في ما إذا كان يقبل بأن تمدد ولايته سنتين إذا تعقدت الأمور فأجابه الرئيس سركيس برفض قاطع. وأخبرني الرئيس أن السفير الأميركي السابق جون غونتر دين فاتحه في الموضوع نفسه قبل نحو سبعة أشهر، وأنه أبلغه أيضاً رفضاً قاطعاً لفكرة تمديد الولاية.

في تلك الفترة، اجتمعت بكل من الرئيسين كميل شمعون وصائب سلام اللذين أبديا تشاؤمهما حيال السنة التالية المفترض أن تشهد انتخابات رئاسية. وقال لي الرئيس سلام الذي دعاني إلى تناول الغداء إلى مائدته في الثامن من كانون الأول (ديسمبر): «كان المسلمون والمسيحيون مجانين عندما تقاتلوا، يجب أن يرحل السوري من لبنان، لدي أدلة وبراهين على أن لدى السوريين نية في قتلي وقتل السفير علي الشاعر وياسر عرفات. لقد انتقدت سركيس ولكنني اليوم أعترف بأنني كنت مخطئاً». وفي موضوع الانتخابات الرئاسية شكك الرئيس السابق للحكومة في إمكانية حصول انتخابات رئاسية في موعدها في الصيف المقبل. وبدا لي أنه أحد القلائل في شارعه الذين يرون الأمور على حقيقتها، ويعارضون الدور السوري، ويدركون مخاطر الانتشار المسلح الفلسطيني. وأبدى اعتقاده بأن سياستنا القائمة «على تدبير الأمور بالتي هي أحسن وكسب الوقت هي الفضلى في هذه الظروف».

سجال الوزان

تعليقاً على مبادرة نحو الشارع الإسلامي أعلنها بشير الجميل، قلت، في الثامن والعشرين من كانون الأول (ديسمبر)، إنها أشمل وأوسع من حيث التفاصيل، من مبادئ الوفاق الأربعة عشر، وإن الأمر متروك للمناقشة والحوار. وقد أوردت صحيفة السفير في اليوم التالي الخبر من باب أن «الحكم يتبنى مبادرة بشير الجميل»، وتحركت القوى السياسية في المنطقة الغربية باتجاه الرئيس الوزان لتحثه على اتخاذ موقف من تصريحي. وراجعه إبراهيم قليلات وأوفد وليد جنبلاط إليه مروان حمادة، فعمد إذاك رئيس الحكومة إلى الإدلاء بتصريح رد فيه عليّ بشكل غير مباشر، وقال إن لكل الحق في التعبير عن رأيه وأن يكون له اجتهاده إلا أنه هو الذي يعلن موقف الحكومة والحكم. حاول بعض الصحافيين أن يفتعلوا سجالاً بين الرئيس الوزان وبيني، ولكنني لم أحرك ساكناً وامتنعت عن التعليق على تصريح رئيس الحكومة.

تعمدت في اليوم التالي ألا أصل في الوقت المحدد للاجتماع الثلاثي الأسبوعي الذي يسبق مجلس الوزراء كي لا أجتمع بالرئيس الوزان في مكتب رئيس الجمهورية. ولكن فور وصولي، قال لي أحد الحجاب إن الرئيسين يسألان عني، وينتظرانني. فدخلت إلى مكتب الرئيس سركيس حيث صافحت الرئيسين وحرصت على أن أشعر الرئيس الوزان ببعض البرودة من ناحيتي. أما هو فقد وجّه إليّ الكلام بشكل عادي مستفسراً عن بعض المسائل المتعلقة بوزارة الخارجية وقد أجبته بأنه سيطلع عليها لدى وصول البريد إليه. ثم نظرت في عينيه وسألته: «لماذا تسعى إلى استعدائي؟» وعاتبته على موقفه موضحاً له أنه في غير محله، وإذا كان أحرج من جرائه فما كان عليه سوى الاتصال بي وأنا كفيل بترتيب الوضع. فأبدى أسفه لسوء التفاهم كاشفاً عن المراجعات التي تلقاها في هذا الصدد، وأقر بأنه كان من الأفضل أن يتصل بي بدلاً من أن يصرح بما صرح به، وعرض أن يدلي بحديث أمام وسائل الإعلام بعد مجلس الوزراء لإزالة الانطباع السيئ الذي تركه كلامه في اليوم السابق. فعارضت الفكرة قائلاً: لا حاجة لذلك. لكنني تأثرت في الواقع كثيراً بصراحة رئيس الحكومة ونبله وشجاعته وتقديمه مصلحة لبنان على أي اعتبار آخر مهما كان الثمن باهظاً.

ذر الرماد

يوم الحادي عشر من كانون الثاني (يناير) 1982، زار لبنان آتياً من سورية الأمين العام لجامعة الدول العربية الشاذلي القليبي. اجتمع بي أولاً، ثم بالرئيسين سركيس والوزان، فجمعنا نحن الثلاثة، للبحث في موضوعين: تشكيل الهيئة المصغرة لتحضير استراتيجية عربية موحدة التي نص عليها مؤتمر القمة في فاس، بناء على اقتراح لبنان، وتشكيل هيئة مراقبة الشواطئ المفترض أن تنبثق من لجنة المتابعة العربية. كان موقف رئيسي الجمهورية والحكومة أنه ليس على لبنان أن يقدم تصوراً للاستراتيجية، بل عليه أن يطلب إلى الجميع إبداء تصورهم ليصار إلى تصور موحد، فلم أشاطرهما هذا الرأي. وبعد جدل طويل، اتفقنا على أن يتقدم لبنان بتصور سياسي- اقتصادي ويترك الشق العسكري من الاستراتيجية لكل دولة لكي تعالجه وفق إمكاناتها وقدراتها العسكرية. أما بشأن هيئة مراقبة الشواطئ فقد قرّ الرأي على أن تتكون من الدول الأعضاء في لجنة المتابعة، وعلى أن يضاف إليها دول أخرى إذا تبين أن العدد الذي ستؤمنه غير كاف، وتوافقنا على أن يعرض الأمين العام على مجلس الجامعة موضوع التمويل في ضوء تحديد العدد المطلوب لهيئة المراقبة. لم أكن في الواقع مقتنعاً بجدوى ذلك وكتبت مساء اليوم نفسه في يومياتي:

«جميع هذه الأمور من الشكليات وهي بمنزلة ذر الرماد في العيون لأن ما من أحد يستطيع أن يفعل شيئاً من أجل الجنوب طالما أن هناك مقاومة فلسطينية موجودة فيه. ليس باستطاعة أحد أن يمنع السلاح عن المقاومة ولا عن خصومها».

عشية الموعد المقرر للدورة السادسة للجنة المتابعة العربية في السابع عشر من كانون الثاني (يناير) 1982، زارنا خدام بعد سلسلة اتصالات أجراها مع سامي الخطيب وأخرى بين جوني عبدو ومحمد غانم على خلفية أنه ليس من اللائق ألا يحاط لبنان علماً بأجواء جولة الرئيس السوري حافظ الأسد على البلدان العربية. استقبل الرئيس سركيس وزير الخارجية السورية لبعض الوقت ثم انضممنا، الرئيس الوزان وأنا، إلى الاجتماع الذي تلته مأدبة غداء. تداولنا بداية في ما أبلغتنا إياه السعودية عن تعذر حضور وزير خارجيتها سعود الفيصل وإيفاد وزير دولة مكانه، وفي اعتذار وزير الخارجية الكويتية صباح الأحمد الصباح عن حضور تلك الدورة. فتفاهمنا مع خدام على تأجيل الدورة إلى موعد يحدد لاحقاً يحضره وزراء الخارجية في الدول المشاركة في اللجنة.

وبعدما لخص لنا خدام نتائج جولة الرئيس السوري العربية، تطرقنا إلى الوضع اللبناني والاستحقاق الرئاسي المقبل والوفاق اللبناني. كان وزير الخارجية السورية على غير عادته هادئاً جداً ولم يمزح كثيراً ولم يطلق المواقف العنترية، بل كان متزناً ومتحدثاً بجدية طوال الوقت متخلياً عن المنحى الإيديولوجي الذي كان يُميّز خطابه في تلك السنوات. واتفقنا على أن أقوم بزيارة قريبة إلى دمشق قبل أو بعد الدورة الطارئة لمجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية التي كانت سورية طلبتها وتأجلت نزولاً على رغبتها للبحث في القرار الإسرائيلي القاضي بتطبيق التشريعات الإسرائيلية على منطقة الجولان. وبعد مغادرة خدام إلى سورية، قلت للرئيس سركيس إن وراء تخلف وزيري الخارجية الكويتية والسعودية ثلاثة أسباب: الأول عتب دول الخليج على سورية لموقفها في قمة فاس من مشروع الأمير فهد، وفي لجنة المتابعة العربية حيث تُشغل اللجنة بالتفاصيل والأمور الهامشية وتتهرب من التصدي للمواضيع الأساسية وإيجاد حلول جذرية لها مثل انتشار الجيش اللبناني ومستقبل قوات الردع العربية. والسبب الثاني التعبير عن عدم نجاح زيارة الرئيس الأسد إلى البلدان الخليجية بالنسبة إلى أي موضوع يتجاوز الجولان. والثالث موقف المقاومة المُعبر عنه في مذكرة عرفات المتعلقة بهيئة الرقابة.

غضب سوري

مساء التاسع عشر من كانون الثاني (يناير) 1982، استقبلت في القصر الجمهوري رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي شارل بيرسي. وبعد الاجتماع الرسمي الذي دام بضع دقائق، تبعته إلى منزل السفير الأميركي في اليرزة حيث تناولنا طعام العشاء ثم تكلمنا مطولاً في الشؤون اللبنانية، فبدا لي أنه رجل ذكي لكنه غير مطلع بشكل كاف على أوضاع لبنان. تساءل بيرسي كمعظم المسؤولين الأميركيين عن سبب عدم صمود الجيش وبالتالي انفراطه وقيام الدويلات الطائفية، وسبب عدم تحقيق الوفاق بين اللبنانيين. كما تحدثنا مطولاً عن سورية ودورها في لبنان، وقال إنه لولا تدخلها لقُضي على المسيحيين، فأجبته: «هذا صحيح لكن الصحيح أيضاً أنه كان لها دور في الظروف والأسباب التي جعلت المسيحيين يطلبون تدخلها بعدما باتت حياتهم في خطر، لا يجوز أن يكون ذلك خافياً على الإدارة الأميركية». وأشرت إلى أنه من الضروري تحديد دور سورية في الزمان والمكان، وفي شكل واضح.

ولما ذكر أمامي أن السعوديين يقولون إنه لابد للبنان أن يطلب رسمياً إنهاء الدور السوري في يوم من الأيام، أجبته بأنه سبق لنا أن طلبنا ذلك عملياً في ورقة العمل التي تقدم بها الحكم الممثل بالرئيسين سركيس والوزان إلى لجنة المتابعة العربية، وبأن سورية غضبت من هذا الموقف، وعملت ما بوسعها لوضع الورقة اللبنانية جانباً ولتهميش موضوع الجيش.

يوم السبت في الثالث والعشرين من كانون الثاني (يناير) زرت دمشق حيث اجتمعت بعبد الحليم خدام ثم بالرئيس الأسد بحضور الأول. وقد تناولت المحادثات مسألة الجنوب والأخطار الإسرائيلية، وضرورة نشر الجيش اللبناني في صور والنبطية، والحاجة إلى زيادة عدد أفراد قوات الطوارئ الدولية، والتحرك سياسياً كيلا يصاب الأمن في لبنان بنكسة. وتوافقنا على أن النقطة الأخيرة تحتاج إلى المضي في عملية الوفاق والاتفاق على دور الجيش، والبحث في العلاقات المميزة بين لبنان وسورية.

من حيث الشكل، كان جو اللقاءين صافياً وهادئاً، ولكن من حيث المضمون كاد أن يكون فارغاً عملياً باستثناء تأكيد السوريين على أنهم لا يرغبون في التفجير وأنهم على استعداد للحوار مع جميع الأطراف، بمن فيهم الكتائب، من أجل الوصول إلى وفاق شامل يتناول مسألة انتخاب رئيس جديد للجمهورية إضافة إلى المسائل الأخرى. غير أنني تجنبت أن أبحث معهم في موضوع رئاسة الجمهورية بشكل مباشر خوفاً من أن يعمدوا إلى تحوير أقوالي على هواهم، كما حصل في السابق. وخرجت يومذاك بانطباع أنه لم تعد لدى السوريين نية في محاولة إسقاط حكومة الرئيس شفيق الوزان. وحرصت في نهاية المحادثات على الإدلاء بتصريح فيه شيء من الإيجابية لكي لا ييأس اللبنانيون، على رغم أن فحوى ما دار في الاجتماعين لم يكن يبعث على التفاؤل.

يتبع

back to top