بسهولة اتخذت الحكومة اللبنانية قرارين صعبين لا تستطيع تطبيقهما عمليا؛ وبسهولة ألحق «حزب الله» هزيمة عسكرية بالموالاة، وأقدم على ما يفترض أنه محرم: احتلال بيروت الغربية؛ وبسهولة أيضا خسر «حزب الله» سياسيا ما كان ربحه عسكريا؛ وبسهولة يبدو أن الأزمة اللبنانية المستعصية سلكت سبل الحل، وقتيا على الأقل.

Ad

لم تنته المواجهة اللبنانية الأخيرة بغالبين. انتهت بمغلوبين فقط: فريقا الأزمة اللبنانية الداخليان على حد سواء، ووحدها تبدو الدولة منتصرة، وإن إلى حين. ومن المفهوم أن يكون كل مكسب تحققه الدولة خسارة لقوى ما دون الدولة، أقواها بخاصة، أي «حزب الله». فلأنه كان الطرف الأكثر استغناء عن الدولة والذي لا يكاد يخسر شيئا من غيابها أو شللها، فإنه أول الخاسرين من حضورها وتعافيها. غير أن لخسارته حدودا هي حدود تعافي الدولة، وهذه حدود ضاغطة قلّما تعد بدوام العافية، ومن حيث المبدأ، قوى 14 آذار خاسرة أيضا، إلا أن تماهيها النسبي مع الدولة يحد من خسارتها.

بأجلى صورة ظهر في بيروت في الشهر الماضي مفعول قانون عقم القوى العسكرية أو عدم قابليتها للتحويل إلى نفوذ سياسي شرعي. يستطيع «حزب الله» السيطرة على لبنان ككل، وقد سيطر على بيروت بيسر بالغ، غير أنه لا يستطيع أن يترجم قدرته هذه إلى مكاسب سياسية، وأقل منها إلى احترام ومكاسب معنوية، أي إلى نصر حقيقي. ومن وجوه هذه المفارقة أن الحزب هو، في آن، قوة شرق أوسطية مهمة وقوة لبنانية مثل غيرها، أي صغيرة. ففي «غابة» مثل «الشرق الأوسط» من شأن قوة مسلحة ومتماسكة جيداً كـ«حزب الله» أن تكون فاعلا مؤثرا، لكن في «وطن» مثل لبنان يخسر المسلحون أهم ميزاتهم، قوة السلاح. وكلما صار لبنان أشبه بوطن وأقل شبه بغابة، على نحو ما يبدو أن تطورات ما بعد اتفاق الدوحة ترجحه، تراجعت قيمة القوة العسكرية، وكذلك القوة السياسية التي قد تدرها تلك على حائزيها.

***

على أن المزيج الغامض من السهولة والصعوبة في تطورات الوضع اللبناني خلال شهر مايو ليس مطمئنا، فتعذر التثمير السياسي لقوة عسكرية لا يقول شيئا عن هذه القوة العسكرية نفسها واتجاهات توظيفها المستقبلية. وبينما قد يبدو للوهلة الأولى أن وضع «حزب الله» عاد إلى ما قبل بداية 2007، موعد اعتصامه في بيروت وانسحابه من الحكومة، فإن الواقع ربما يكون أشد تعقيداً من ذلك. ثمة أولا خبرة احتلال الحزب لبيروت الغربية طوال أسبوع في الشهر المنقضي، وما يترتب عليها من اهتزاز الثقة به واكتسابه صفة ميليشياوية، لطالما اجتهد كي ينفيها عن نفسه. وثمة ثانيا تماثل الدولة اللبنانية إلى بعض شرعية، تُلزِم الحزب أن يعود «مقاومة»، بينما ثمة قوات دولية في الجنوب منذ نهاية حرب يوليو 2006. وثمة ثالثا تفاوض سوري إسرائيلي نشط من غير الواضح إلى أين سيفضي، أو أي تأثير سيكون له على الاستقطابات الإقليمية.

ما ستكون قضية «حزب الله» في مثل هذه الشروط؟ هذا مطويّ عنا، ولم يجعله خطاب زعيم «حزب الله» يوم 27/5/2008 مكشوفا. وهذا ما ينبغي أن يكون مثيراً للقلق. ففي يد الحزب الكثير من السلاح اليوم، لكن القليل من القضية. والمقلق في الأمر أن السلاح يحتاج إلى أعداء، وقد يصطنع لنفسه قضية كبيرة توازي حجمه. يبدو غير مرجح راهنا الاحتمال المعاكس، أي نزع السلاح بالتوازي مع ضمور القضية (إن لم يكن بسبب القوات الدولية في الجنوب فبفعل التفاوض السوري الإسرائيلي النشط).

ومن أجل مخرج حكيم من هذه المعضلة، لا ريب أنه من مصلحة لبنان أن تتكلل المفاوضات السورية الإسرائيلية بالنجاح، فمن شأن ذلك أن يقلل من احتياطي القضايا السهلة الاستنفار في المنطقة، وأن يكون خطوة نحو تهدئة الأوضاع الإقليمية التي لطالما كان لبنان ساحة لاستعارها والمتضرر الأول منه. هذا فوق أن من شأن نجاح التفاوض السوري الإسرائيلي أن يجعل سورية بلدا أقل توترا وجنوحا نحو العسكرة وإقلاق جوارها الأضعف.

***

التطورات الغامضة للأزمة اللبنانية ومزيج السهولة والصعوبة الذي وسم سيرها ومحطاتها الأبرز غير مطمئنة من جهة أخرى. إذ يبدو أن ما خفي من سيرها على هذا النحو الغريب أكثر وأفعل مما ظهر، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأن تفاهم فاعلين إقليميين قد مهد للحل اللبناني أو كفله. فإن كان ذلك صحيحا، على ما نرجح، توثق ارتباط الأحوال اللبنانية بالأوضاع الإقليمية أكثر من أي وقت سبق. وترتب عليه أن الاختلالات المحتملة للأوضاع هذه سوف تنعكس بصورة أكثر وضوحا على لبنان وتعيده إلى أجواء الأزمة والمواجهة. ولما كانت أوضاع الشرق الأوسط بعيدة عن الرسو على مستقر لها، سواء في العراق أو في فلسطين أو في شأن إيران وملفها النووي، أو التفاوض السوري الإسرائيلي نفسه الذي لايزال بعيدا عن مرسى السلام المأمول، فإن نكوص الأحوال اللبنانية على عقبيها يمسي احتمالا واردا وقويا.

فإذا التقى مبعثا القلق، سلاح وفير يبحث عن قضية، وقضايا عالقة تسعى وراء قوة تعززها وساحة يسهل اختراقها، ترجح أن يكون تعافي الدولة اللبنانية عارضا.

أو أن تنضم إلى نادي المغلوبين.

* كاتب سوري