يظلم الغني الفقير إذا سأله جزءاً من ثروته. فإذا كان للغني تسعة وتسعون نعجة وللفقير نعجة واحدة، فكيف يسأله أن يضم نعجته إلى نعاجه، كي يصبح للغني مئة نعجة، ويغدو الفقير معدماً، وينقسم المجتمع إلى: مَن يملكون ومَن لا يملكون؟ وهي صورة بليغة منكرة، تنفر منها النفوس.ويعني السؤال أيضا إعادة توزيع الدخل، بسؤال الفقير حقه في أموال الغني. فالمال مال الله. والإنسان مستخلف فيه. له حق الانتفاع والتصرف والاستثمار. وليس له حق الاستغلال والاكتناز والاحتكار. وبالرغم من أن العمل وحده مصدر القيمة ولذلك حُرم الربا، واستنكف الأنبياء من الإرث والميراث «نحن معاشر الأنبياء لا نورَث» فإنه يحدث أحياناً تفاوت طبقي في المجتمع. وينقسم المجتمع بين أغنياء وفقراء. وتنقسم أساليب الحياة إلى نوعين: حياة بذخ وإسراف وترف للأغنياء، وحياة فقر وجوع وعوز للفقراء.
هنا يكون السؤال عن حق الفقراء في أموال الأغنياء سؤالاً مشروعاً، بل واجباً. هو سؤال حق لا سؤال صدقة، [وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ]. ويتكرر مضمون الآية مرة أخرى للتأكيد، [وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ]. وقد أكد الرسول هذا المعنى عندما سُئل عن معنى الآية هل المقصود بها الزكاة، فأجاب : «في المال حق غير الزكاة». وإذا كان المجتمع كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له بقية الأعضاء بالسهر والحمى، فمن الطبيعي أن يطالب مَن لا مال له بحقه ممَّن له مال. ليس السؤال هنا «شحاذة» على الطريق، كما هو الحال في الشوارع، وعلى ناصية الطرقات من النساء والأطفال والشيوخ والمرضى والعجزة والمجذومين المجرورين بالعربات أو المحمولين على الأكتاف، يسألون الناس مباشرة، أو على نحو غير مباشر ببيع مناديل ورق صغيرة أو كبيرة. فهؤلاء نَهَرَهُم الرسول، وقال فيهم: «لئن يأكل أحدكم من عمل يده خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه». وليس عطاء الأغنياء إياهم بمد أيديهم من العربات الفارهة المكيفة مصادفة في إشارات المرور الحمراء، أو من التوقف للزحام صدقة وكرماً ليخزي العين، ويمنع الحسد، ويشرّع لكسبه اللامشروع، كما يحدث في موائد الرحمن. وهو ما نقده أيضا محمد إقبال وسماه «فلسفة السؤال» عند مَن يمد يده باسطاً إياها إلى السماء كي يسقط فيها الرزق من الله عن طريق الدعاء أو من الناس عن طريق السؤال. فكلاهما شحاذة. وهذا السائل صاحب الحق لا يجوز نهره لأنه يطالب بحقه في المال العام وثروات الأمة، [وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ]. والعطاء من الغني شكر على النعمة واعتراف بها، [وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]. لذلك لا يجوز للفقير السكوت عن المطالبة بحقه في أموال الغني. لذلك قال أبو ذر الغفاري، وأعاده الأفغاني: «عجبت لرجل لا يجد قوت يومه ولا يخرج للناس شاهراً سيفه».
السؤال إذن بهذا المعنى، سؤال الفقراء حقهم في أموال الأغنياء، تذكير بأوجه الإنفاق العام للمال الزائد عن الحاجة، المأكل والملبس والمشرب والمسكن والتعليم والعلاج، وهي الحاجات الأساسية للناس. بعد ذلك يبدأ الإنفاق العام على ذوي القربى، وهم الأقرباء الذي يعرفهم الأغنياء. والأقربون أولى بالشفعة في الإنفاق والصدقة والبيع والشراء والتزاور والتعاطف والتراحم. وهؤلاء لا يسألون لأنهم معروفون من الأقارب ويتعففون. ثم اليتامى الذين لا عائل لهم. والأمة عائل مَن لا عائل له. ومن ثم لا يشعر اليتيم بأنه بلا أهل، لأن المجتمع أهله. ثم المسكين أي الفقير إلى حد الكفاف، وتحت خط الفقر، احتراماً لآدميته. ومن مقاصد الشريعة الحفاظ على حقوق الآدمي. ثم ابن السبيل، وهو المسافر الغريب عندما يحل في بلد. وهو الغريب المهاجر المشرد المطرود، مَن في حاجة إلى إيواء، سكن وعمل واستقرار. ثم يأتي السائلون في النهاية الذين يطلبون بأنفسهم ولا يُعرفون بسيماهم. وهو ما حددته الآية الكريمة، [وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ]. وفي الأرض كفاية للجميع. فقد خلقت الأرض للمعيشة والاستقرار والرزق منها. وهي ليست شحيحة، بل الإنسان هو الشحيح. يوجد فيها الخير، إن كانت خضراء فللطعام، وإن كانت صحراء فالخير تحتها في المعادن والنفط لتنمية الأرض واستثمار الثروة، [وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ].
لذلك يظلم الغني الفقير إذا سأله جزءاً من ثروته. فإذا كان للغني تسعة وتسعون نعجة وللفقير نعجة واحدة، فكيف يسأله أن يضم نعجته إلى نعاجه كي يصبح للغني مئة نعجة، ويغدو الفقير معدماً، وينقسم المجتمع إلى مَن يملكون ومَن لا يملكون؟ وهي صورة بليغة منكرة، تنفر منها النفوس. وهي واقعة فعلية. فقد اختصم الأخوان الغني الجشع والفقير المهيض الجناح الذي لا نصير له، ضرباً بأواصر القربى عرض الحائط لدى داود، [خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ]. واستنفد الغني حججه كلها لأخذ نعجة الفقير: ضرورة تراكم الثروة للاستثمار، الشركة الكبيرة خير من الصغيرة، لا مكان في عصر التكتلات الاقتصادية الكبرى للوحدات الإنتاجية الصغرى، [إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ]. ولا تغني السفسطة عن البداهة، ولا خبرة الغني بالسوق عن واقع الظلم، [قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ]. وفي الأمة اليوم أغنى أغنياء العالم وأفقر فقراء العالم. وهي أمة واحدة. قلة مبذرة مترفة، وأغلبية تحت خط الفقر. نخبة أموالها وثرواتها في البنوك الأجنبية. وملايين تموت جوعاً وقحطاً في مالي والسودان وتشاد والصومال. تركنا السائل على نواصي الطرقات وعلى الأرصفة يشحذ صدقة، وهو لا يعرف أنه صاحب حق. وتركنا الغني يتصدق عليه كرماً ولطفاً، فاليد العليا خير من اليد السفلى، وهو لا يعلم أن عليه واجباً، وأن للفقراء حقاً في أموال الأغنياء.
* كاتب ومفكر مصري