في مثل هذه الأيام منذ ما يزيد على 18 عاما، وكانت أيام غزو واحتلال، كنا في حالة ترقب للضربة الجوية التي كان قد تقرر موعدها في 17 يناير، كان البال منشغلا على يوسف المشاري ورفاقه، فمنذ ان اعتقلهم الغزاة في شهر اكتوبر، ونحن نتحرى اخبارهم، وتنقلاتهم من معتقل الى آخر، حتى انقطعت تلك الاخبار نهائيا في اواخر ديسمبر.

Ad

كان يوسف المشاري من الشخصيات النادرة، لم يمنع كونه واحدا من القيادات العليا في وزارة الداخلية، بل وكونه مسؤولا عن القوات الخاصة في اصعب فترة مرت على الكويت قبل الغزو من ان يتمكن من المحافظة على قدر من الاحترام في اوساط قيادات نواب المجلس وجمهور «الحركة الدستورية»، او ما اشتهر باسم «ديوانيات الاثنين»، ربما كان ذلك الذي جعل يوسف مؤهلا لان يقود المقاومة الكويتية، ويجمع شتات المتناقضات في مواجهة احتلال آثم غاشم. كان يوسف ثنيان يقضي اجازته الصيفية خارج الكويت عندما داهمتنا الرياح الصفراء من الشمال، ومن دون تردد قطع اجازته ودخل الكويت في وقت كان فيه الخارج منها اكثر من الداخل، وفي وقت تهربت فيه قيادات اخرى من المسؤولية، بل ورفض بعضها الدخول، كان يوسف يعرف ان اطرافا في القيادة السياسية شجعوه على الدخول، في الوقت الذي طلبوا من قيادات امنية اخرى عدم الدخول، كان يدرك ذلك، ويقوله لي بابتسامته الجميلة، ثم يضيف «الوطنية مو شعارات، ما يصير نخليكم بروحكم في وجه الاوباش، وعندما كنت اطلب منه توخي الحذر خشية الاعتقال، حيث كان يتجول في كل مكان، ورفيق دربه عبدالوهاب المزين، كان يرد «يعني هي نهايتها موت، واحنا نموت كل يوم مئة مرة لما نشوف الاحتلال او نتعرض للاهانة عند نقاط التفتيش». كان يوسف من ذلك النوع الوطني السلس من دون رتوش او بهارات.

وفي مساء يوم سبت باهت من شهر اكتوبر، وفي بيت اجتمعنا فيه في منطقة النزهة، طوقت قوة عراقية البيت، وتم اعتقال يوسف ورفاقه، وكان بطل آخر من ابطال الكويت اللواء محمد البدر قد استشعر بعض التحركات، ونبهنا الى ذلك، فقررنا اخلاء البيت الى بيت آخر قريب منه. وبدأنا بنقل بعض الاشياء الى البيت المجاور، «سحارة تمر» وبعض المواعين، كان مؤسفا ان لا يستعجل يوسف ورفاقه وظلوا بعض الوقت يتجاذبون اطراف حديث لم يكن مهما على الاطلاق، بل ان بطلا آخر هو عبدالوهاب المزين كان قد خرج معنا وعند الباب، ابتسم وقال، «عندي سالفة لازم اكملها»، وليته لم يصر على تكملة تلك السالفة. كان عبدالوهاب هو الآخر قد دخل الكويت للتو (للمرة الثانية) بعد انتهاء أعمال المؤتمر الشعبي، ترك الامان وعاد للمواجهة.

تفاءلنا خيرا عندما عاد الى البلاد ثلاثة من تلك المجموعة وهم: عبدالله الجيران وعبدالله السبت وعبدالسلام السميط على اثر احداث انتفاضة الجنوب بعد تحرير الكويت، ولكن يوسف المشاري وعبدالوهاب المزين وعادل العبدالرزاق وسفاح عنبر ويعقوب السجاري وغيرهم لا اثر لهم، اما البيت الذي اعتقلت فيه قيادة المقاومة الكويتية فقد تم تأجيره، منذ التحرير، على جهات مختلفة كسفارات وغيرها، حتى علمت أخيرا ان التحالف الوطني الديمقراطي قد استأجره كمقر له، ولا اظنهم يعلمون ما جرى في ذلك البيت، واتمنى عليهم ان يضعوا صور اولئك الابطال احياء لذكراهم في مكان اعتقالهم، لمحة عرفان إذ يبدو ان يوسف ورفاقه قد طواهم النسيان، كما هي العادة.

لا أعرف لماذا أتصور ان يوسف سيظهر علينا يوما ما، واتخيل ابتسامته الجميلة، وتفانيه، واخلاصه لوطنه، في زمن تاهت فيه الصور، وتداخلت في الاشياء، فها نحن ايها الوفي الجميل، وبعد انقضاء خمس سنوات على زوال الطاغية، نعجز حتى عن ان نأتي برفاتك ورفات اسرانا، ونقول كما قال مظفر «كم العالم قذر عندما لا تستطيع ان تزور قبر صديق».

نسأل الله لكم المغفرة، ونطلب المعذرة، فوطنكم لم يوفكم حقكم.