في نقد الاصولية
التمييز بين المعرفي والسياسي يجعل التوفيقية بلا معنى، إذ يسند مطلب التوافق والوئام إلى السياسة ويحرر النظريات والمذاهب من عبء القيام بها، العبء الذي يفقدها اتساقها الذاتي.
قد يمكن تمييز الأصوليات بإرادة عودة كل منها إلى أصول مثالية مفترضة، أو بنزوع إلى عرض ذاتها ككل لا فجوات فيه، يؤخذ كما هو أو ينبذ جميعا، بيد أننا سنعرف الأصوليات هنا بموقف "المفاصلة" الذي تقفه من غيرها، أي القطيعة مع الخصم أو من يعتبر كذلك، وتظهر الأصوليات نزوعا ثابتا إلى المخاصمة مع كل من لا يتفق معها بالكامل، مع ميل إلى نسبة الاختلاف عنها ومعها إلى مذهب كلي موحد مثلها. فالديمقراطية تبدو للأصولي الإسلامي دينا أو تأليها لرأي الأكثرية، وكانت تيارات الفكر الغربي المختلفة تبدو للشيوعي الستاليني مذاهب لا فروق بينها لفكر برجوازي رجعي واحد، وتبدو التيارات الإسلامية المتنوعة متماثلة في عين علمانويين (أصوليين علمانيين)، عرب وغير عرب، كما يبدو الإسرائيليون جميعا متماثلين في نظر القوموي أو الأصولي القومي العربي، ويجنح هؤلاء جميعا إلى إلحاق الطرف المعترض عليه بأشد تعبيراته تطرفا كي يسهل لهم رفضه، ويسوّغ موقف المفاصلة حياله. وكان مفهوم المفاصلة تبلور في كتابات الأصولي المصري سيد قطب في سياق تجذر الخصومة بين الإسلاميين المصريين والدولة الناصرية، سياسيا وفكريا ونفسيا. فالمفهوم يستبطن قطيعة مطلقة بين الطرفين، انتهت بقطب كما هو معلوم إلى حبل المشنقة. في جذر ما قد تناسب تسميتها "التفاصلية" أو نزعة التفاصل في شتى صورها نزوع ثابت نحو دمج البعدين المعرفي والسياسي، أو إلحاق السياسي بالمعرفي في نظمنا الفكرية. التفاصلية، تاليا، لا علمانية بالضرورة، حتى لو انتحلت الفكرة العلمانية، وإن العلماني الذي تتعارض منطلقاته المعرفية تعارضا لا ريب فيه مع منطلقات الإسلامي، قد ينزع إلى تبني سياسة معادية للإسلامي كيفما كان هذا، وبصرف النظر عن مقتضيات الملاءمة السياسية ومردود ذلك على مستقبل العلمانية، والنزوع المحتمل هذا، وليس التعارض بحد ذاته، هو ما يجعل منه أصوليا، أو تفاصليا، أو "علمانيا مجاهدا". ولا ينبع التعادي بصورة محتومة من الفكرة العلمانية إلا حين تصاغ هذه بصورة مذهب مطلق، أي حين تكون عقيدة وسياسة، دينا ودولة، فالعلمانية المستنيرة أو الدستورية، إن صح التعبير، لا تتخلى عن منطلقاتها الفكرية التأسيسية، لكن يفترض المرء أنها لا تنخرط في مواجهات إلغائية تفاصلية، تضعف فرص العلمانية بالذات. نقيض التفاصلية، ما يمكن أن نسميه "التواصلية"، ينزع بالعكس إلى إلحاق المعرفي بالاجتماعي والسياسي (أو النظري بالعملي)، فيجعل من التطلع المحمود نحو التسوية والتفاهم والتوفيق بين الناس ودعاة التيارات الفكرية والسياسية المختلفة مبدأ لشرعية المعرفة ذاتها، فتخلط "التواصلية" بين مقتضيات الإجماع والتفاهم الاجتماعي من جهة، وبين مقتضيات المعرفة حيث لا إجماع ولا تفاهم من جهة ثانية، وبينما تجعل التفاصلية من مخاصمة المختلف وإقصائه مسألة مبدأ، فإن "التواصلية"، تجعل من التسوية مبدأ للعقل ذاته، فالأولى تلغي السياسة، والثانية تلغي المعرفة. ويتأدى الموقف الذي يلحق المعرفي بالسياسي إلى التوفيقية، فيما يفضي الموقف العقلي والعملي الذي يلحق السياسي بالمعرفي إلى الإقصائية، وفي تقابل التوفيقية والإقصائية يتجسد المأزق الفكري العربي اليوم، فأكثر النقد الموجه ضد التوفيقية ينطلق من مواقع إقصائية محتكرة للصواب، تنكر الحاجة إلى التفاهم والوئام الاجتماعي والسياسي في مجتمعاتنا، وأكثر النقد الموجه ضد الإقصائية أو ضد الأصوليات التفاصلية يجعل من التوفيق والإجماع معيارا للمعرفة ذاتها. المبدأ الذي يتعين إبرازه في هذا السياق هو أنه لا حجية للإجماع في مجال المعرفة، ويمكن أن يخطئ جميع الناس ويصيب شخص واحد كغاليليو، أما في مجال السياسة والعلاقات بين الناس وحياتهم الاجتماعية فأرجحية الإجماع أو خيار الأكثرية مسألة تعريف للسياسة الديمقراطية في الدولة القومية الحديثة، ويحصل أن يكون حتى هذا الإجماع مدانا من وجهة نظر أخلاقية أو إنسانية، معلوم أن النازيين استلموا السلطة في ألمانيا عام 1933 بحصيلة انتخابات حرة، ومعلوم أيضا أن سياسة الغزو الأميركي نالت على الدوام تأييدا شعبيا أميركيا واسعا، لم يفتر في أوقات لاحقة إلا بسبب الخسائر البشرية أو الأعباء المادية، لكننا لا نعرف معيارا لسلامة السياسات في ظل الدول القومية الحديثة غير استجابتها لتفضيلات الأكثرية الاجتماعية، وإن كانت نظرية الديمقراطية تركز أيضا على الاندماج الوطني أو بناء الإرادة العامة وعلى نشر التعليم والثقافة والفضيلة العامة، من أجل بناء رأي عام مستنير، غير أن هذا ليس موضوعنا. ما نريده هو تقرير مبدأ استقلال المعرفة (أو العقيدة) والسياسة عن بعضهما، وغير خاف أن هذا هو أساس العلمانية، فمعيار السياسة هو مردودها من التفاهم والتوفيق والوئام والتسوية بين مصالح متعارضة، وهذا أشد إلحاحا في مجتمعاتنا المهددة بالتمزق والانقسام على نفسها، بالمقابل معيار المعرفة هو "مطابقة" الذهني للواقعي، وبقدر ما يتعلق الأمر هنا بالمذاهب ونظم الفكر الاجتماعية والسياسية فإنه ينضاف إلى معايير الحكم عليها الطرافة والابتكار وأصالة النظرة. والتمييز بين المعرفي والسياسي يجعل التوفيقية بلا معنى، إذ يسند مطلب التوافق والوئام إلى السياسة ويحرر النظريات والمذاهب من عبء القيام بها، العبء الذي يفقدها اتساقها الذاتي، وبعبارة أخرى، التوفيق بين الناس وليس بين الأفكار، بين المصالح الاجتماعية والقوى السياسية وليس بين المذاهب والنظريات الاجتماعية، التوفيق بين الماركسيين والقوميين مثلا، وليس بين الماركسية والقومية، وبين العلمانيين والإسلاميين وليس بين العلمانية والإسلام أو الإسلامية، وبين الليبراليين والاشتراكيين وليس بين الليبرالية والاشتراكية، التوفيق هذا يقصي الإقصائية دون المساس بتكامل واتساق شخصية نظم الفكر المعنية، ودون تنازل للمذهب التوفيقي. والحال أن من الحيوي في مجتمعاتنا المعاصرة الجمع بين أقصى حد من الاعتدال السياسي، بالمعنى الأصيل للكلمة لا بالمعنى الإيديولوجي السلطوي (القرب أو البعد من الطرف الذي يوزع أحكام الاعتدال والتطرف) وأكبر قدر من الأصالة الفكرية. أي بين تفاعل اجتماعي وسياسي معافى ومتحرر ونشط، وبين نظم فكر واعتقاد وطريقة متسقة ذاتيا ولا تشبه بعضها. * كاتب سوري