Ad

يخزن الكاتب اللبناني – الكندي راوي الحاج في روايته الجديدة «مصائر الغبار» كل ما استطاع من مشاهدات عن الحرب اللبنانية الأهلية، في محاولة للتخلّص منها دفعة واحدة وكأنه حين يسجنها بين صفحات الرواية يقفل عليها بإحكام ويمنعها من الظهور ثانيةً.

نالت رواية الحاج الأولى «لعبة دونيرو» أرفع الجوائز الأدبية، أهمها جائزة «أمباك دبلن» العالمية للآداب. ترجمت الرواية (صدرت بالإنكليزية) إلى أكثر من 18 لغة، منها الفرنسية بعنوان «رائحة الغبار». صدرت لها أخيراً ترجمات عربية منها تلك الصادرة عن «الشركة العالمية للكتاب» في بيروت بعنوان «الخيار المؤلم»، ثم طبعة عربية مترجمة في غلاف كرتوني أنيق عن شركة «المطبوعات للتوزيع والنشر» بعنوان «مصائر الغبار»، وهي الترجمة التي سنعتمد عليها في قراءتنا الموجزة لهذه الرواية.

سيلان

يمثل الرقم عشرة آلاف في عرف الفلسفة الصينية رقماً هائلاً، وحين يستعمل هذا الرقم يعني كل شيء والكثرة الهائلة اللانهائية التي لا مجال لحصرها وتعدادها... إنها سيلان مفتوح ومطلق ودائم.

يبدأ الحاج روايته بعبارة: «عشرة آلاف قذيفة تساقطت وأنا أنتظر جورج». يقرأ الكاتب الهول بحواس معطلة وبخيال جريح، فتبتعد القراءة عن الكناية وتصنع لغة الهول. تغيب عناصر الكناية كلها عن بنية اللعبة السردية في رواية الحاج، وإذا ظهرت كناية ما فلا تحضر بلباسها الأصلي بل بلباس الإطفائي أو لباس حفار القبور أو هيئة «الزعران» ورجال الميليشيا... هذه الشخصيات لا تظهر في الرواية ممسرحة بل عارية.

تتحرك الوقائع من خلال تصرّفات هذه الشخصيات التي لا تحتاج إلى المبالغة والتطرف كي تصنع حوادث ضرورية تسمح للرواية بالحراك والارتفاع في فضاء المجاز لترسم مشهداً باذخاً ومرعباً وغنياً. يكفي أن تعيش ليصبح عيشها الطبيعي مساحة مجنونة تقدم للرواية كل ما تشتهيه من صور ومرجعيات.

مشاهد متقطعة

تكتب مشاهد الرواية عين تتذكر فتفرز مشاهد متقطّعة يجمع الموت أجزاءها في سبحة طويلة مصنوعة من حبات ألم مجاني بكنايات كثيرة. يعلن أنه «لم يستطع إيقاف أغاني فيروز الكئيبة تلك، التي تنوح من ذاك المذياع». يصوّر «قطط مسيحية تتمشى في الشوارع الضيقة بلا مبالاة، لا تصلِّب أبداً ولا تنحني حتى للكهنة المتّشحين بالسواد». لم يقل إن الحرب تحوّل أغاني فيروز إلى نواح، بل أعلن بوضوح أن فيروز هي جزء من معالم الحرب وليست كياناً منفصلاً عنها، لذلك يجب الهرب منها أيضاً.

فتح الكاتب صندوق الحرب الأسود وجعل كل ما فيه يتصاعد دفعة واحدة ويسمم كل ما يحيط به ويجاوره ويحاذيه. فيروز إذاً ليست سلطة وليس غناؤها آتياً من كوكب آخر، بل يصدر من مكان الحرب وزمانها، ويساهم في تحديد العلامات اللصيقة بذاكرتها، لذا لا بد من الفرار منه.

القطط في الرواية مسيحية! وهذه ليست كناية أو مزحة. إذا كانت المناطق والأحياء بقاطنيها من البشر موسومة بالطائفية، فكيف تنجو الحيوانات من هذا الوسم وهي كائنات دنيا؟ هذا الوصف لا يخرج من دائرة العين التي تقشّر الكنايات وتلقي بلبّها عارياً في مجال المشاهدة العامة المبذولة والرخيصة كما هي حال الموت في الحروب.

نتذكر في هذا الصدد رعب الكتّاب والشعراء من الموت الجماعي الخالي من أية خصوصية، فكثيرون من هؤلاء الذين قاسوا أهوال الحرب العالمية الثانية رفضوا الانتحار في عز انتشار المعارك وفضّلوا الانتظار الى أن تنتهي الحرب لينتحروا.

عرف هؤلاء أن من يشهد هول الحرب كله سوف يعود إليه دوماً في فكره وذاكرته وكوابيسه، وأن الخروج من مثل هذه الفظاعة غير ممكن، لذلك صنعوا موتهم في لحظة خاصة محاولين إضفاء بعض الشاعرية والمعنى عليه في ظل عالم فقد المعنى .

يطلق الحاج إشارات الرعب العام منذ اللحظة الأولى، مصرّحاً أن سر الرعب يكمن في أن المرء محدد بعلامة لا تخصه وربما لا تعني له شيئاً، لكنه لا يستطيع التخلي عنها، فمثلما كانت القطط في الشارع مسيحية، كذلك كانت روح الأشخاص والأماكن موسومة بعلامة نفي قاسية لأي خصوصية، ومثل هذا النفي واسع الى درجة أن الموت لا يحرر المرء منه، بل يؤبده.

هل تستطيع الكائنات الأسيرة في مثل هذا السجن الضيق إلا أن تركن إلى الغبار مهما اختلفت أحوالها؟

تناغم المنافي

استعادة صورة سابقة للمدينة من شأنها أن تضاعف الهوة الواقعية التي لا مجال لتفاديها... يروي الكاتب قصة بسام إبن المدينة في الجانب المسيحي الذي يحلم بالخروج من المدينة ويرسم الحيل الممكنة كلها لذلك. لا يرى في المكان شيئاً يستحق العيش، بل يعتبره منفى لا يحمل أية قيمة.

يرفض بسام المعادلة التي تقول إن انضمامه إلى الميليشيا سيتيح له علاقة أفضل مع المكان. أما صديقه جورج فيصل إلى تسوية مرعبة وينضم إلى الميليشيا، لتبدأ لعبة القتل.

يصوّر بسام أمله: {صعدت نحو أعلى الهضبة ونظرت إلى الوادي، ثم نظرت إلى البحر الممتد أمامي، البحر الذي سأضطر إلى الغوص فيه سباحة لأصل إلى شطآن ٍ أخرى، وأترك هذا المكان».

أما جورج فيذهب إلى دورة تدريبية في إسرائيل ويتحدث عن المخيم في الصحراء وعن التدريب قائلا: {حين تتسلل على عدو من الخلف لتشرط عنقه، عليك أن تمسك به من ذقنه وليس من فمه وإلا سيعض يدك، حسنا؟ إذاً كان علينا التمرّن على ذلك».

نسمة عابرة

ذلك كله لم يجعل من المصير متباعداً، فالغبار الذي لا يستقر في مكان والذي تكفي نسمة عابرة لتشتيته هو ما يجمع بين مصائر كائنات الحرب ويوحّدها. يشارك جوزيف في مجزرة صبرا وشاتيلا، وحين يروي تجربته تنتقل الانفعالات من تمجيد الانتقام والقتل لتتحوّل إلى رعب هاذ، إذ يؤمن أنه قتل أمه حين يتذكر صورة تلك السيدة التي دخل إليها فوجدها على الأرض محاطة بجثث بناتها فقال لها: «تودين الانضمام إلى عائلتك، أليس كذلك؟»، فتجيب: «أكمل ما بدأته يا بني».

هكذا تتركّب المصائر في وحدة المنافي التي تشمل العالم كله، فلا نجاة من منفى يستوطن النفس ويحدد نزوعاتها وإمكاناتها.

جوزيف يلعب لعبة دونيرو... يلقم المسدس بطلقة واحدة ويدير البكرة ثم يطلق، فتكون الطلقة الوحيدة هي التي رست عليها دورة دائرة المسدس الجهنمية.

يهاجر بسام إلى مصير الغبار الخاص به في فرنسا، معتقداً أنه خرج من المنفى، فيكتشف أن مطارحه كلها كانت مدبرة ومراقبة من الموساد الإسرائيلي، وأن مصيره شبيه بلعبة دونيرو مؤجلة بعض الشيء.

تنتهي «مصائر الغبار» مع بسام وهو يروي لريا أخت جوزيف المقيمة في باريس طريقة موت أخيها بشكل تفصيلي سادي قبل أن يركن إلى محطة قطار محاولاً الهرب من مصير الغبار الذي يسكنه.

لجأت الرواية إلى محطات واضحة من تاريخ الحرب اللبنانية السياسي والعسكري، لكنها لم تصبح رواية سياسية تعنى بتقديم رؤية سياسية أو نقد سياسي، بل يمكن القول بكثير من الثقة إنها رواية ملحمية استندت الى تاريخ الحرب كحجة لسرد هول عارم ونادر يطرح سؤالاً إنسانياً.

لعل الحاج، الكاتب المنتمي إلى هذه الطائفة التي يشرح دورها في صناعة الحرب، يحاول القيام بفعل تطهّر مزدوج: من ناحية انتقد طائفته بقسوة، ومن ناحية ثانية كتب روايته بالإنكليزية ليفهمها العالم الغربي الذي كان له دور كبير في أحداث لبنان.

هكذا تحقق الرواية نتائجها المرجوّة، وتكريمها بتلك الجوائز كلها على رغم طبيعتها المحلية وتقنيتها السردية العربية، يعني أن هذا الغرب بدأ ينظر إلى المنطقة العربية بعين مغايرة يسودها قدر كبير من التفهّم والوعي.

تقول الرواية بوضوح إن مصائر الغبار لن تبقى محصورة في هذه البقعة الصغيرة بل هي جاهزة لترسم خريطة العالم بأسره. يصرخ الكاتب «أنا من رأى فهل من يأخذ عيني»، لكنه لم يجد أحداً فدفنهما في الرواية.