Ad

قضية غلاء الأسعار قضية اقتصادية واجتماعية معقدة، تتشابك فيها سياسات عامة كثيرة وتتداخل فيها اعتبارات متعددة، لذا فمن الخطأ التعامل معها بأسلوب ردود الأفعال أو المهدئات النفسية الموقتة، لأن معالجتها تتطلب سياسة عامة ديناميكية طويلة المدى.

من المؤسف أن أغلب القرارات الحكومية لا يُبنى على سياسات عامة، وإنما يأتي كردود أفعال واجتهادات شخصية لكبار المسؤولين، لذلك فسرعان ما ينتهي أثر هذه القرارات من دون حل جذري للمشاكل التي يفترض أن تكون القرارات قد صدرت لحلها.

وفي أحسن الأحوال، فإن القرارات الحكومية التي تُبنى على اجتهادات شخصية ما هي إلا مسكّنات موقتة لبعض أعراض المشاكل العامة التي تُترك لتتفاقم سنة بعد أخرى.

كما أنه من الملاحظ أن التعامل الحكومي مع المشاكل والقضايا العامة يفتقد الرؤية والتخطيط الاستراتيجي، ويغلب عليه طابع ردود الأفعال أكثر من كونه سياسة عامة دائمة وديناميكية. والشواهد على ذلك كثيرة، لكننا سنكتفي هنا بكيفية التعامل الحكومي مع قضية غلاء الأسعار، لنتساءل: هل هي سياسة حكومية عامة أم أنها اجتهادات شخصية لوزير التجارة قد تصيب وقد تخطئ، وتنتهي في أفضل الأحوال بمجرد تغيير شخص الوزير؟

فمن المعروف أن قضية غلاء الأسعار قضية اقتصادية واجتماعية معقدة تتشابك فيها سياسات عامة كثيرة وتتداخل فيها اعتبارات متعددة، بعضها داخلي يمكن التحكم به ولو جزئيا، وبعضها الآخر خارجي لا يمكن التحكم به إطلاقا، لذا فمن الخطأ التعامل معها بأسلوب ردود الأفعال أو المهدئات النفسية الموقتة، لأن معالجتها تتطلب سياسة عامة ديناميكية طويلة المدى.

لهذا فإن «بُشرى» توزيع بعض المواد الغذائية المجانية على المواطنين بما يشبه «الصدقة» -وإن أخذت إعلاميا مسمى «الهدية» الرمضانية (ولا نعرف لماذا لم تشمل «الصدقة» الحكومية الرمضانية المقيمين أيضا؟!)- والإيحاء بأن ذلك سيقضي على غلاء المعيشة الذي يلتهم دخولهم الشهرية، ما هي إلا أحد مظاهر سياسة الاجتهادات الشخصية الخطأ، وهو ما يذكِّرنا بموضوع زيادة الخمسين دينارا التي صوّرها أغلب أعضاء المجلس وكأنها الحل السحري لغلاء المعيشة، وإذا بها عديمة الجدوى في مواجهة التصاعد المستمر في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية.

لذا فإن على الحكومة بدلا من سياسة العطايا والمنح والصدقات التي لا تليق بالدولة الحديثة التي يحصل مواطنوها على حقوقهم المشروعة، ولا ينتظرون صدقات وهدايا و«منّة» الحكومة، القيام برسم سياسة عامة علمية وواقعية لكيفية معالجة غلاء الأسعار، يدخل ضمنها المراجعة العاجلة للسياسات الاقتصادية المتعلقة بالصادرات والواردات وتحديد الأسعار، والعمل على تنويع مصادر الدخل للتخفيف من التأثيرات السلبية للاقتصاد الريعي ونمط الاستهلاك البذخي وما يترتب عليه من سلوكيات وعادات متخلفة كاختيار نوعية المسكن والملبس والمأكل والسيارة وغيرها، التي تجعل بعضهم يلزم نفسه بأعباء مالية غير ضرورية لا يستطيع الوفاء بها.

كما أنه من المفترض أن تتضمن السياسة الحكومية الجديدة، تشجيع عملية الادخار التي أصبحت لا تمثل أي قيمة في مجتمعنا اليوم، وتدريب ربّات وأرباب الأسر على كيفية إدارة ميزانية الأسرة لتتناسب مع دخلها الشهري من خلال الاقتصاد في الاستهلاك غير الضروري للمواد الغذائية والاستهلاكية، على أن تأخذ السياسة الحكومية في الاعتبار الوضع الصعب لأصحاب الدخول المحدودة، الذين هم بحاجة إلى المساعدة الحكومية العاجلة التي تحافظ على كرامتهم الإنسانية وتضمن لهم مستوى معيشيا محترما.

كما يفترض أيضا القيام بمراجعة شاملة لكل السياسات الحكومية، لأنها تتأثر وتؤثر بعضها في بعض. فمثلا سياسة استقدام واستخدام العمالة المنزلية تؤثر في دخل الفرد، فلو تم الاستغناء عن الخدم، أو على الأقل تقليل عددهم في كل بيت، فإن ذلك سينعكس حتما على المصروفات الشهرية للأسرة، وكذلك الأمر فيما يتعلق بسياسة تحديد النسل.

باختصار فان التعامل مع غلاء المعيشة يتطلب سياسة عامة واضحة وطويلة المدى وليس اجتهادات شخصية تبقى، مع كل الاحترام لها، مسكّنات موقتة سرعان ما ينتهي مفعولها فتصبح وكأنها لم تكُن.