ليس زئيف شتيرنهل، البروفسور الإسرائيلي الذي تعرض أخيرا لاعتداء من قبل متطرفين يهود كاد يودي بحياته، بالمثقف الحالم، الصادر في دعوته إلى الإقرار بالواقعة الوطنية الفلسطينية على أساس حل الدولتين عن سخاء مبدئي، عن وازع إنساني أو ضميري، بل إن الوصف الأدق للرجل، هو ذلك الذي قد يتمثل في القول إنه «إيديولوجي واقعي»، إن جازت العبارة.

Ad

فشتيرنهل صهيوني، بل «سوبر صهيوني» على ما عرّف نفسه في مقابلة أجرتها معه قبل فترة صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، وهو بذلك لا يدعو إلى ما يدعو إليه، من اعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية، من باب الانتقاد للإيديولوجيا المؤسسة للدولة العبرية، على ما قد يُفهم من كتابات القائلين بـ«ما بعد الصهيونية» أو بعض من وصفوا بـ«المؤرخين الجدد»، بل من باب الالتزام الحرفي بتلك المنطلقات الإيديولوجية، إذ هو يعتبر استمرار الوضع الاحتلالي على ما هو عليه، مضرّا بإسرائيل على صعيدين جوهريين: يثقل كاهل الدولة العبرية بأعباء ذلك الاحتلال ماديا وأخلاقيا، أو هو مُفضٍ إلى ما هو أنكى، إلى حل «الدولة لشعبين»، ما من شأنه أن يستوي نقضا وانتهاكا لمبدأ أساسي قام عليه المشروع الصهيوني، هو المتمثل في إقامة دولة يهودية، خالصة اليهودية.

ما يمكن استخلاصه من كل ذلك أن شتيرنهل صهيوني منسجم مع نفسه، بصفته تلك، تمام الانسجام، بل إن ما هو أهم أنه يمثل عيّنة ذات دلالة على وسط داخل إسرائيل، لم يتبلور تيارا محدد المعالم على الأرجح، يفيد بإمكان تسويغ تسوية يُعتد بها، أي فعليّة قائمة على حل الدولتين على نحو يقطع مع واقع الاحتلال قطعا صريحا ومبرما، وذلك بالاستناد إلى المنطلقات الصهيونية نفسها. تبدو المقاربة تلك، أقله نظريا، حائزة على أسباب النجاعة، فهي تجعل من التسوية مطلبا صهيونيا، ناتجة عن المنطق الصهيوني ذاته وعن أقانيمه المؤسسة، أمرا لا يتطلب إخلالا بتلك الأقانيم أو مراجعة لها مؤلمة عصيّة، ناهيك أنها تلوح مستجيبة إلى مصلحة، وفق المنظور الصهيوني الأصلي أو الكلاسيكي الذي يمثله رجل كالبروفسور شتيرنهل.

غير أن الملاحَظ، وما لا يعدّ عديم الدلالة، أن المقاربة تلك لم تفرض نفسها، بالرغم من بداهتها الظاهرية. فهي إن لم تُرفض، على نحو عنيف، على ما فعل المتطرفون اليمينيون إذ اقترفوا اعتداءهم على البروفسور المذكور، فإنها تُسامُ، من قبل الإسرائيليين تجاهلا وامتناعا عن سبر احتمالاتها وإمكانات إنفاذها. ربما عاد ذلك إلى أن فكرة التسوية، أقله وفق الصيغة التي يقترحها البرفسور شتيرنهل، وهو بالمناسبة من مؤسسي «حركة السلام الآن» ومن الناشطين في صفوفها، وإن بدت متماشية مع المنطق الصهيوني لا تناقضه، إلا أنها تصطدم بجوهر المشروع الصهيوني وتنقضه. فإذا كان المنطق ذاك وغايته قد تمثلا استراتيجيا في إقامة «وطن قومي لليهود» على أرض فلسطين، فإن جوهره وشرط تحققه إنما تمثلا في فعل اغتصاب، ناكر للواقعة الفلسطينية إنكارا قطعيا جذريا لأنه من قبيل وجودي، إطلاقي، وهو لذلك كان ولايزال يستبعد التسوية لأن هذه الأخيرة تضفي على الحق الذي تدعيه في أرض فلسطين نسبية، وهذه تفيد في الحالة الإسرائيلية هشاشةً، لأن «الحق» ذاك يتأسس على إرادوية من قبيل إيديولوجي، لا على وجود «طبيعي»، تاريخي مطرد، على ما هو حال الفلسطينيين وما قد يمثل عنصر تفوق يحوزون عليه، آية استثناء ضمن ميزان قوة منخرم لغير مصلحتهم على سائر الصعد الأخرى.

ذلك ما قد يكون العقبة الكأداء التي تعيق إقبال إسرائيل على التسوية، حتى إن وُجدت تبريرات من داخل المنطق والمنطلقات الصهيونية نفسها، على ما تفيد المحاججة التي يأخذ بها البروفسور شتيرنهل. إذ التناقض بين ظاهر ذلك المنطق الصهيوني وجوهره، على ما سبقت الإشارة، يبقى عصيّا لا يتيسر تذليله.

بل إن في السيرة السياسية والفكرية للبروفسور المذكور ما يعبر عن ذلك التناقض على نحو جلي، يكاد يكون نموذجيا. فالرجل من كبار الخبراء المشهود لهم عالميا في تاريخ الحركات الفاشية الأوروبية، تلك التي ظهرت في جنوب القارة القديمة لا سيما، بين أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، لكن يقينه الإيديولوجي حال دوما دونه وإدراج الحركة التي ينتمي إليها ضمن موجة الاحتقان القومي التي شهدتها أوروبا في تلك الأثناء، ودون استخلاص أن الحركة تلك (وإن لم تبلغ مبلغ الفاشية) اتسمت بالكثير من سماته: توقا قوميا، حصريا عدوانيا، آخذا بمبدأ «المجال الحيوي»، نافيا لما عداه.

وبالنظر إلى كل ذلك، ربما يبقى من المتعذر التوصل إلى تسوية، على أرضية الفكر الصهيوني، على ما يحاول البروفسور شتيرنهل أن يفعل.

* كاتب تونسي