الحدباء، أشهر مآذن الموصل وأهم معالمها، حتى أن المدينة ذاتها كانت تعرف لدى روادها في العصور الوسطى باسم مدينة الحدباء.

Ad

وشيدت هذه المئذنة على عهد نور الدين محمود زنكي، لتكون جزءا من عمارة مسجده الشهير باسم الجامع النوري أو الجامع الكبير، ويعود سبب تشييد هذا الجامع إلى أن المسجد الجامع الذي شيده الخليفة الأموي مروان بن محمد والمعروف بالجامع الأموي، كان قد ضاق بالمصلين في مدينة الموصل حتى بعد توسعته وترميمه في عهد الخليفة المهدي العباسي وكان ذلك خلال فترة حكم سيف الدين بن عماد الدين زنكي أحد ولاة الأتابكة على هذه المدينة.

عهد نور الدين محمود بأعمال البناء إلى الشيخ معين الدولة عمر بن محمد الملاء، الذي كان أول شيخ للجامع النوري بعد افتتاحه للصلاة، وبدأ العمل في تشييده عام 566هـ "1170م” ثم افتتح للصلاة بعد عامين 568هـ "1172م” وطرأت بعد ذلك العديد من أعمال الترميم والإصلاح على الجامع النوري، إذ عمر القسم الأيمن من المصلى في عهد الحاكم حسن الطويل بين عامي 882 - 871هـ، كما جدده العثمانيون في القرن الثالث عشر الهجري "19م” وأجريت به بعض أعمال الإصلاح والترميم في عام 1940م، ووحدات الجامع موزعة بين مصلى صيفي واسع مكشوف، وآخر شتوي غير مفتوح على الصحن، ولجأ مهندس الجامع لهذا التصميم نتيجة للظروف المناخية التي أدت إلى تميز طقس الموصل خلال فصل الشتاء بالبرودة القارسة.. وقد نقل محراب الجامع النوري الأصلي في عام 1940م إلى متحف بغداد الوطني وهو تحفة فنية نادرة من الرخام الذي زخرف عن طريق الحفر برسوم نباتية من طراز الأرابيسك.

وتعد مئذنة هذا الجامع من أهم وأجمل وحداته المعمارية، واشتهرت باسم "الحدباء” لوجود ميل طفيف بها حتى طغى اسمها على المدينة. ويبلغ ارتفاع الحدباء حوالي ٥٥ مترا وهي مشيدة بالطوب الأحمر "الآجر”، على هيئة بدن أسطواني يستدق في رشاقة وجمال كلما صعدنا إلى أعلى.. وسقط الجزء العلوي من المئذنة وأعيد تشييده بالحجر وليس بالآجر والجص كما في باقي البدن وهو ما ينبئ عن متانة أساسات هذه المئذنة الحدباء.. وتمتاز هذه المئذنة النادرة بزخارفها الهندسية الناجمة عن تباين أوضاع قوالب الطوب الأحمر، وهي في ذلك تشبه مئذنة قرية سنجار بإقليم الموصل، ويمكن الصعود إلى الحدباء التي تقع في الركن الشمالي الشرقي من الجامع النوري، عن طريق سلَّمين حلزونيين يدوران داخل البدن، دون أن يرى الصاعد في أي منهما الآخر، ولايلتقيان إلا في شرفة المؤذن الدائرية الشكل، وهي حيلة معمارية تنبئ عن عبقرية مهندس المئذنة.. وبشرفة الأذان عدد من الشبابيك المعقودة التي ينفذ من خلالها الضوء لإنارة درجات السلم الصاعدة حتى الشرفة واتخذت زخارف الآجر في هذه المئذنة هيئات هندسية رائعة وأهمها وأكثرها شيوعا هيئة المعينات التي تحوي داخلها معينات أصغر حجما.

وتعكس هذه المئذنة ببدنها الأسطواني، الطابع التقليدي لعمارة العراق وبلاد فارس من بعد تشييد مدينة سامراء، والتي تعتمد على استخدام تقنيات البناء بالطوب الأحمر "الآجر”، وتبدو متأثرة بالميراث المعماري لحضارة بلاد الرافدين وإيران القديمة أيضا. وتباينت الآراء التي حاول المعماريون من خلالها تفسير الميل الموجود بالحدباء، إذ ذهب بعضهم إلى القول بأن أخطاء فنية في إرساء قاعدة المئذنة المربعة أدت لهذا الميل، فيما فسر فريق آخر ميل المئذنة بحدوث اختلال في التوازن الميكانيكي للتربة بسبب ارتفاع منسوب المياه الجوفية، ولكن هذه الآراء يصعب قبولها لأن التجديدات التي طرأت على المئذنة أدت إلى استخدام الأحجار في تشييد قمتها، ولو كان هناك خلل فني في الأساسات لانهارت المئذنة منذ زمن طويل، وذلك ما دفع بعض الآثاريين إلى أن يؤكدوا أن ميل المئذنة باتجاه الشرق تم تحت تأثير الرياح الغربية التي تهب باستمرار على مدينة الموصل، ونظرا لخفة وزن الآجر فإن بدنها الرشيق لم يتحمل هبوب هذه الرياح وصارت المئذنة مائلة نحو الشرق ومن أجل ذلك عرفت بالحدباء.

ويُعرف الجامع النوري باسم الجامع الكبير، لأنه يعتبر أكبر المساجد التاريخية في الموصل، وتعرف المحلة التي يقع بها المسجد النوري بوسط المدينة باسم "محلة الجامع الكبير”، ويوجد بالموصل عدد من المساجد الأثرية المهمة أيضا، فبالإضافة إلى الجامع الأموي القديم هناك "الجامع المجاهدي” وهو من إنشاء "مجاهد الدين قيماز” أحد قادة دولة الأتابكة، وكذلك جامع النبي جرجيس وجامع العمرية، والموصل من المدن المهمة التي شيدها المسلمون في شمال العراق، واختاروا مواقعها لامتيازه بالخصوبة والمنعة إذ يحيط بالسهل الذي به سلاسل جبلية ممتدة، بحيث تشكل هلالا عظيما يصل بين الخليج العربي والبحر المتوسط بقدر ما يفصل بين سهول العراق والمناطق الجبلية الواقعة شرقا وشمالا، وهذا الموقع الفريد شهد إنشاء عدة مدن قوية على جانبي نهر دجلة، فقد شيد الآشوريون مدن "آشور” و”كالح” و”أربيل” و”دهوك” و”دور” و”شروكين” و”نينوي”، وبنى الساسانيون مدينة "فواردشير” - أو عرين الأسد - كما أنشأ العرب قبل الإسلام مدينة "الحضر” المحصنة، وهذه المدن جميعها تقع على مقربة من مدينة الموصل الحالية.

وكما هو الدأب في العواصم الإسلامية الأولى، فقد شيد مسجد الموصل الجامع أولا، في عام 71هـ على يدي "عتبة بن فرقد السلمي” الذي افتتح حصن نينوي الغربي صلحا في تلك السنة، ولكن المدينة شيدت فعليا بأوامر من الخليفة عمر بن الخطاب لواليه عرفجة بن هرثمة البارقي الذي زاد مساحة المسجد الجامع ودار الإمارة الملاصقة له، واختط الأحياء من حول الجامع وسمي هذا المصر على يد البارقي باسم "الموصل” لأن المدينة كانت من الناحية الجغرافية تصل السهل بالجبل والفرات بدجلة مثلما تصل العراق بالشام. وغدت الموصل من وقتها تستقبل هجرات القبائل العربية، بعد أن أصبحت نقطة انطلاق لجيوش الفتح المتجهة إلى أقاليم أرمينيا وأذربيجان ولمهاجمة ممتلكات الدولة البيزنطية في هضبة الأناضول.

وبلغت الموصل درجة من النمو العمراني خلال العصر الأموي، امتدت معها خطط العمائر والجسور على دجلة لتشمل الجهات الأربع، ولكن ازدهار الموصل أصيب بانتكاسة كبرى في بداية العصر العباسي، إذ تمردت القبائل العربية النازلة بها والموالية للأمويين على الحكم العباسي الناشئ والمدعوم من الفرس، فحاصرها يحيى بن محمد العباسي ونادي من أعلى منارة الجامع الأموي القديم بأن من دخل المسجد كان آمنا ثم ذبح أكثر من عشرين ألفا ممن لجأوا إلى الجامع الأموي، وأثرت هذه الحادثة المروعة على عمارة الموصل خاصة مع تهدم أسوارها الأموية الحصينة.

ولكن الموصل عادت للنمو والازدهار بعد وقت قليل، حتى كان عهد هارون الرشيد الذي قام بهدم أسوارها مجددا للقضاء على تمرد القبائل العربية النازلة بها. ثم دخلت الموصل في حوزة الدولة الحمدانية التي عنيت بأسواقها وخاناتها وحماماتها الحجرية، وأسست فيها أول دار علم في الإسلام على يد جعفر بن محمد بن حمدان.

ورغم تعثر عمران الموصل خلال النزاعات التي عمتها في عهود بني عقيل والسلاجقة، فقد استعادت ازدهارها العمراني حين اتخذها الأتابكة عاصمة لدولتهم، إذ سعوا إلى تعميرها حتى تقدمت على أيديهم لتلحق بأمهات المدن في العالم الإسلامي، وزودها أمراء الأتابكة بشتى أنواع العمائر كالمساجد والمدارس والمستشفيات وأغلب هذه العمائر تعرض للاندثار بسبب الحروب بين الصفويين والأتراك العثمانيين خلال سنوات القرن العاشر الهجري.