السلام: حديث خرافة يا أم عمرو
بين ليلة وضحاها انقلب تجييش النفوس والجيوش في منطقتنا، فصار برداً وسلاحاً، بعد أن كان برداً وسلاماً على القلوب الآمنة. فما هي اللعبة الجديدة التي تمارس علينا؟ وهل ما يجري في حديث الحرب والسلام على ألسنة المسؤولين عن البلاد وعن العباد حقيقة أم خديعة؟ فإذا كانت الأولى فما هي مرتكزاتها، وإذا كانت الثانية فما هي مسبباتها وأهدافها؟فجأة... ومن دون سابق إنذار، تحولت، ولفترة أقصر من عمر الورود، طبول الحرب إلى مزامير الفرح استعداداً لـ«عرس السلام» المرتقب. ثم اختفت الزغاريد من أفواه نسائنا، وعاد الكل إلى وضع أيديهم على قلوبهم خشية وقوع المحرقة الكبرى. والذي يثير الحنق والغيظ معاً أن حكامنا يشاركون في هذه السيمفونية المتقلبة بالطبل وبالزمر، وفي بعض الأحيان بالرقص، وكأن السلام واقف على أبوابنا المفتوحة لكل من يريد الدخول إلى غرف نومنا، مهما كان لونه وعرقه وجنسيته. يقولون لنا إن السلام قادم بسرعة البرق بين سورية وإسرائيل، وإن التفاهم بين «حماس» و«فتح» سيعيد مجدداً اللحم إلى الالتصاق بالظفر بين مناضلي الأمس في الضفة الغربية ومقاومي اليوم في غزة، وإن إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس آتية لا محالة، وإن وحدة الشعب العراقي صار، بقوة السلاح الأميركي- الإيراني، حقيقة لا استحالة، وإن طهران مع جيرانها القريبين والبعيدين وعلى الرأس إسرائيل يمشون الخطوة الأخيرة نحو «صفقة» تستأصل الرعب من أفئدة الخليجيين وأصحاب النظام العربي الواحد المعتدل وغيرهم.
مهلاً يا إخواني... ما هكذا تورد الإبل يا سادة. فحقائق الأمس مازالت موجودة في العمق، ولم يحدث ما يغيّرها، لا على الأرض ولا في السماء. كل ما هنالك هو أن واشنطن المصرة على الإمساك بأوراق اللعبة كلها بالتفاهم الكامل مع تل أبيب وبقية عواصم الغرب، وجدت نفسها بحاجة إلى فترة زمنية لالتقاط الأنفاس، فاخترعت «كذبة» السلام. والمصيبة الكبرى أننا صدقناها، لأننا بدورنا بحاجة ملحة إلى «استراحة المحارب» بانتظار ما ستأتي به رياح المستقبل المنظور وعواصفه المدمرة.محادثات السلام السورية- الإسرائيلية برعاية تركيا لن تصل إلى أبعد من دخول انقرة في «نادي القوى الأعظم» لمنطقة الشرق الأوسط. وهذا الأمر هو مطلب أميركي- إسرائيلي- غربي. بعد زوال حكم البعث في العراق، تشكل هذا النادي من عضوين رئيسيين هما إسرائيل وإيران، حيث أصبحنا في إطار «كماشة استراتيجية» أخذت ما تبقى من حرية اتخاذ قرارنا الاستراتيجي، ولم تترك لنا إلا ورقة التوت. دخول تركيا على خط الوساطة بين دمشق وتل أبيب منحها حقوقاً لدخول النادي المذكور الذي أصبح مثلث الأطراف. وتركيا لها دور مستقبلي في صراعات المنطقة. فهي من جهة تستطيع أن «تلجم» سورية نتيجة الواقع الجيوبوليتيكي الذي يخيف دمشق أكثر مما تخيفها قنابل إسرائيل النووية، وصواريخ الولايات المتحدة العابرة للقارات. كذلك فإن تركيا مؤهلة لتقف سداً منيعاً في وجه التمدد السياسي والجغرافي لإيران عندما يحين الحين. وعندما تحصل تركيا على شرعية عضويتها في نادي الكبار (وقد حصلت عليها فعلاً من دون إعلان) فإنها قد تدير ظهرها لمشروع السلام السوري- الإسرائيلي في حال إصرار سورية على شروطها السابقة والمعروفة. أما إذا قبلت دمشق بالشروط الإسرائيلية المعدّلة (وهذا مستبعد اليوم)، فإن تركيا ستلعب دور الضامن لتنفيذ الاتفاق. وليس هناك ما يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى أن دمشق ستتخلى عن الشروط التي وضعها مؤسس الدولة الأسدية الرئيس السابق حافظ الأسد. وأيضاً ليس في الجو ما يدلّ على أن إسرائيل مستعدة للتخلي عن كل الأرض والمياه في الجولان المحتل. يقولون إن التفاهم السوري- الإسرائيلي بات في «الجيب». هذا القول، بصرف النظر عن مصدره، هو أبعد ما يكون عن الحقيقة للأسباب التالية:1- أن المعدة الإسرائيلية ليست مؤهلة للتخلي عن أرض استراتيجية مثل هضبة الجولان، كما فعلت في سيناء- مصر وفي وادي عربة- الأردن.. تلك الأرض التي هي امتداد لصحراء لا غرس فيها ولا نبت ولا فائدة. والحديث الإسرائيلي عن «الاستعداد للتخلي»، بموافقة وتشجيع أميركا هو عبارة عن «إبرة» مخدرة متعددة الأهداف. وشروط إسرائيل لعقد اتفاق سلام مع سورية قديمة قِدم عهد الرئيس الأميركي الأسبق كلينتون. وأخطر ما في هذه الشروط هو تحجيم الجيش السوري لمدة تتراوح بين 15 إلى 20 سنة بحيث يصبح غير قادر على مقاومة أي هجوم إسرائيلي. قيل وقتها أن تل أبيب اقترحت وواشنطن وافقت على تسريح ثلثي الجيش السوري، وعلى تخفيض القدرة العسكرية الحالية إلى الثلث. كل ذلك كي تشعر إسرائيل بالاطمئنان طوال فترة الـ15 أو الـ20 سنة التي تلي توقيع هذه الاتفاقية. أما مَن يطمئن سورية، ومَن يضمن عزوف إسرائيل عن استخدام عدوانيتها المزروعة في دمها، فالجواب عند واشنطن وتل أبيب. وللتاريخ، فإن الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، عندما قرأ هذا الشرط الإسرائيلي- الأميركي، أغلق ملف المفاوضات وسلمه إلى أصحابه مع إشارة: مرفوض بشكل كامل. فكيف يستطيع الابن أن يقبل ما رفضه الأب؟، وفي ظل المعطيات السياسية الحالية والاتفاق الاستراتيجي مع إيران، بل كيف يتمكن الابن من تمرير مثل هذا المشروع و«الذئاب» تحيط بنظامه من كل دائرة في الداخل وفي الخارج؟ وخصوصاً في الجوار. كيف يقبل بشار الأسد، وهو المعروف بتوارثه حكمة وحنكة وهدوء أبيه بركوب هذا المركب الخشن الذي سيوصله حتماً إلى التهلكة؟!2- أما الكلام عن إمكان عودة طهران إلى أحضان واشنطن، وتخليها عن العراق... وأيضاً الحديث الذي يملأ الأسماع والأذهان والعيون عن تهدئة إسرائيل في غزة، وعودة محمود عباس إلى الاعتراف بزعامة، أو نصف زعامة «حماس» بعد أن تم الطلاق بينهما بالثلاثة... وكذلك مصالحة زعماء عشائر لبنان السياسية في ظل التدخلات الآتية من كل حدب وصوب والتي بدأت تباشير جدواها تظهر في طرابلس عاصمة لبنان الثانية. فكل ذلك حديث «خرافة يا أم عمرو».* كاتب لبناني