مرة جديدة تثبت الأحداث في لبنان صدقية نظرية ثعلب السياسة البريطانية دزرائيلي وتلميذه النجيب ونستون تشرشل القائلة: «ليس لبريطانيا عدو دائم ولا صديق دائم، بل مصلحة دائمة». وللدلالة على أن لبنان مارس هذه النظرية بكل صدق وإخلاص ما حدث في كواليس العاصمة القطرية خلال مؤتمر المصالحة. فعندما جرى التفاهم على البنود الرئيسة للوفاق وهي تمثل 80 في المئة من مطالب المعارضة، من تشكيل حكومة اتحاد وطني وإعطاء المعارضة الثلث المعطل، إلى اعتماد مبدأ القضاء في الانتخابات النيابية القادمة على أساس روح وجسد قانون 1960 الذي وصفه جنبلاط والحريري وجعجع وغيرهم بأن القبول به يشكل انتحاراً سياسياً للموالاة، وذلك قبل الحسم العسكري السريع في بيروت وفي الجبل.. انتقل البحث، وراء الكواليس، حول التفاهم على تقاسم جبنة السلطة في الحكومة التي ستلي انتخاب الرئيس التوافقي العماد ميشال سليمان.

Ad

أتوقف هنا قليلاً عن المتابعة لأطلب من أصحاب القلوب الضعيفة أن يتفادوا قراءة الكلمات التالية حرصاً على سلامتهم من صدمة المفاجأة غير المتوقعة. فعندما طرح أمير قطر ووزير خارجيته: سيراً على مبدأ التوافق الذي اعتمدناه، من هو الشخص المؤهل لترؤس حكومة ما بعد انتخاب سليمان رئيساً لجمهورية. ولا أستطيع أن أؤكد أو أنفي ما إذا كان صاحب السمو الأميري، ووزيره الأول صاحب المعالي كانا أول من دخل «غرفة الإنعاش» بعد سماعهما الجواب. تولى رئيس المجلس ورئيس حركة أمل نبيه بري الإجابة عن السؤال: نحن (أي المعارضة بما فيها حزب الله) متفقون على دعم ترشيح رئيس تيار المستقبل سعد الحريري لتولي رئاسة أول حكومة في العهد الجديد.

يقول أحد الذين حضروا اللقاء وسمعوا الحوار من أركان المعارضة، إن الأمير ووزيره تبادلا نظرة تنم عن الدهشة أرفقاها بابتسامة عريضة يمكن ترجمتها إلى ما يلي: إن مؤتمر الدوحة، الذي وضع قطر الصغيرة المساحة في خارطة الدول العظمى، لم يحقق التوافق بين المتقاتلين بالسلاح وبغير السلاح فحسب، حيث دخلت قطر التاريخ من بابه الواسع على أساس أنها صنعت المعجزة. لكن ما صنعته الآن من ترشيح سعد الحريري لرئاسة الحكومة من قبل الذين اجتاحوا شوارع بيروت، وحسموا أمر الوهم الكبير الذي كان اسمه الميليشيات الحريرية خلال ساعات معدودة، يطالبون اليوم بترئيس زعيمها، في الوقت الذي لم تجف دماء المقاتلين بعد. وإذا كان التفاهم الوفاقي اعتـُبـِر معجزة أولى، وهذا كان متوقع الحدوث نتيجة التطورات الميدانية، إلا أن المعجزة الثانية هي في أن يطالب أعداء اليوم برفع عدوهم إلى سدة الرئاسة الثالثة في لبنان التي أعطاها مؤتمر الطائف معظم صلاحيات الحكم المطلق، فلماذا حدث ذلك؟ وما الذي دفع نبيه بري ومن ورائه أركان المعارضة إلى ممارسة القفز فوق الجثث والدماء إلى حضن الذين كانوا لساعات قليلة ماضية يطلبون رؤوسهم لوضعها على أسنّة الحراب؟ سنعود إلى شرح المعطيات بعد استكمال مشهد «المعجزة الثانية».

بعد أن استيقظ أمير قطر من صدمة المفاجأة السارة التي لم يكن يتوقعها، لا هو ولا غيره، مال إلى أذن نبيه بري وقال بصوته الهادئ المعروف ما معناه: لدي وجهة نظر أخرى... ماذا لو تم التوافق على إبقاء فؤاد السنيورة على رأس الحكومة؟ وقبل أن تبدأ مناقشة هذا الاقتراح سارع الأمير إلى حسمه بالقول: بهذا نكون قد أرضينا الأميركيين ولم نغضب السعوديين وبالأخص جورج بوش وكوندي رايس وكل الإدارة الأميركية، خاصة أن هذه الإدارة لاتزال ترفع أعلام الدعم لحكومة فؤاد السنيورة. إن حجب السنيورة -تابع الأمير- يزيد المرارة لدى الأميركيين ويظهرهم بمظهر الخاسرين، وأنتم تعرفون أن بوش في وضع حساس جداً ومن الأفضل الابتعاد عن استفزازه. تلك هي الأسباب التي دفعتني إلى تقديم هذا الاقتراح الذي أرجو أن يؤخذ بعين الاعتبار بعيداً عن سياسة تصفية الحسابات التي يمكن أن تعتمدوها عندما يعود لبنان إلى حالته الطبيعية.

اُسقِط َ في يد نبيه بري لدى سماعه المنطق الأميري الذي أثبت مرة أخرى أنه أمير من فهم وأدرك العقليتين الأميركية واللبنانية المعقدة. لكن الجواب لم يكن إيجابياً بالمطلق، بل حلّ محله وعد بعرض الموضوع على أقطاب المعارضة. لكن الأمير القطري قرأ ذلك بصورة إيجابية. ولتسهيل تنفيذ اقتراحه سارع إلى دعوة السنيورة للانضمام إليه وإلى نبيه بري، وهو يعرف أن جهاز التلفزة يسجل كل شاردة وواردة. ثم قام بحركة أفسحت المجال أمام بري والسنيورة لتبادل ثلاث قبلات رافقتها ابتسامة عريضة على وجه بري وأخرى على وجه السنيورة مع علامات الارتياح الكامل على وجوه الناظرين. والمعروف أن العلاقات الشخصية بين الرئيسين بري والسنيورة وصلت إلى أدنى درجات السوء قبل هذا اللقاء. والقيام بعملية «تبويس اللحى»، وهي تراث عربي قديم لم يجر التخلي عنه بعد، يجسد الخطوة الأولى والأساس في أي مصالحة عشائرية، منذ الجاهلية مروراً بالإسلام وانتهاء بالقرن الحادي والعشرين الذي نعيش اليوم بظلاله.

أما لماذا قررت المعارضة تبني ترشيح سعد الحريري لرئاسة الحكومة فلهذا الأمر تحليلات ومعطيات لا تخرج عن إطار المناورة والمراوغة منها أولاً، أن تبني ترشيح الحريري يمكن أن يساهم إلى حد بعيد بعدم إيقاظ ما تبقى من الفتنة السنية-الشيعية، خاصة بعد أن شعر فريق من السنّة الحريريين بالقهر النفسي نتيجة اختراق الشيعة حصون دفاعاتهم في بيروت. ولأن القهر مع الخسارة يولـّد مزيداً من القهر فإن الخشية أن ينتقل الفريق المقهور من تحت جناح الحريري إلى جناح الأصولية السنّية التي يجري اليوم إعدادها وتنظيمها على قدم وساق، في مختلف المناطق اللبنانية وبالأخص منطقة الشمال الطرابلسية. ووصول الحريري إلى السراي من شأنه أن يعرقل عملية الانتقال هذه إذا لم يستطع إلغاءها بالكامل.

ثانياً، أن وصول الحريري إلى رئاسة الوزراء سيخفف من غلواء حلفائه الإقليميين (السعوية ومصر والأردن)، ويفتح آفاقاً جديدة لسياسة خارجية لبنانية سليمة لا تقوم على الانحراف أو الانجراف مع التيارات العربية المتقاتلة. أما أميركا فلتذهب إلى الجحيم، فالمعارضة ليست معنية بإرضائها في الوقت الذي لم تعد لإدارتها أي أظافر. وإذا كان لابد من إرضاء أميركا، فيمكن أن يحدث ذلك في ظل الإدارة الديمقراطية الآتية إلى البيت الأبيض على حصان سريع الخطوات.

ثالثاً، أن تبني ترشيح الحريري من شأنه أن يزرع البلبلة في صفوف الموالاة ويؤدي في النتيجة إلى تفكيك تجمعهم، في هذا المجال تستوجب الإشارة إلى أن المعارضة نجحت في هذه النقطة. فأصوات الموالاة بدأت ترتفع من صفوف تحالفاتهم، ومن صفوف الحريريين تنصح الشيخ سعد بعدم الوقوع في هذا الفخ وترك رئاسة الحكومة للسنيورة هذه المرة أو لواحد من الحريريين قد يكون نائب بيروت بهيج طبارة. ولدعم هذا المنطق قيل لسعد الحريري: المطلوب من الحكومة الجديدة أن تتعاون مع سورية لتحقيق الوفاق فيها، فهل أنت على استعداد للذهاب إلى دمشق بعد كل ما قلته عنها وعن رئيسها، وقبل أن تعقد المحكمة الدولية جلستها الأولى لمحاكمة المتهمين بقتل والدك؟ هل تحتمل أعصابك يا شيخ سعد أن تجلس في دمشق عيناك بعيني الذي اتهمته -ومازلت- بقتل والدك الشهيد؟

هذه الأسئلة وغيرها لم يجب عنها سعد الحريري إلى حين كتابة هذه الأسطر، مع إبداء ميله غير العلني إلى قبول ترشيح المعارضة له لرئاسة الحكومة. يبقى تساؤل واحد: أين وليد جنبلاط من كل ما حدث وما يحدث؟ أحد المقربين من زعيم المختارة ردّ أن وليد بك قال لهم -أي للموالاة- في الدوحة: أنا خارج إطار الأخذ والردّ الآن. لقد جئت إلى الدوحة بصفة مراقب لأشارك لا لأناقش. بكرا منشوف.

هذا الموضوع سيكون مضمون مقال الأسبوع القادم.

من ناحية أخرى، وضع الرئيس المنتخب ميشال سليمان سلّم أولوياته في إدارة البلاد في إطار ما اتفق عليه في مؤتمر قطر. أولوية الأولويات لدى الرئيس الجديد هي الأمن ثم الأمن. وقد وضع برنامج تحركاته السريعة في هذا المجال في السيطرة على القرار الأمني حيث سيكون للقيادة العسكرية الكلمة الأولى والأخيرة. وهذا ما جرى «توضيحه» لبقية الأجهزة الأمنية، وبصورة خاصة لجهاز الأمن الداخلي الذي قيل عنه إنه كان يمثل «الجيش البديل» لقوى الموالاة قبل حسم المعركة على الأرض. وقد تمّ التوافق على أن تكون وزارة الداخلية حصته من مجموع الوزراء الثلاثة في الحكومة القادمة. وفي الكواليس المحيطة بالرئيس الجديد حديث حول تعيين شقيقه انطوان سليمان، الذي يشغل حالياً منصب محافظ البقاع، وزيراً للداخلية. ذلك لأن رابطة الدم أقوى من «الخيانة» وتبعث على الاطمئنان الكامل لحسن سير الأمور. والشقيق المرشح له سجل نظيف يؤهله للعب دور نظيف في تركيز استقرار الأمن والأمان بعيداً عن السياسة والسياسيين والناس أجمعين.

* كاتب لبناني