إن مآسي المواطنين الصينيين في عهد ماوتسي تونغ، لا يمكن حصرها في كتاب واحد، فعلى الرغم من تشابه سير هؤلاء المواطنين، فإن باستطاعة المرء أن يعثر في تجربة كل منهم على مشاهد جديدة توسع الجرح وتعمق الألم، وذلك بالضبط ما وجدته في كتاب «تنغ ـ هسنغ يي».
هناك، بعيداً، في أقاصي شرقنا السارب في سعادته اللانهائية... فوجئت بحضوره دون أن أطلبه أو أتمناه أو أتوقعه.كنت بعد فراغي من قراءة كتاب «بجعات برية» للكاتبة الصينية «يونغ تشانغ» الذي تناول محنة ثلاثة أجيال من أسرتها، وبعده كتب «آنتشي مين» الخمسة التي تناولت أحوال الصين منذ غروب إمبراطورية أبناء السماء حتى قيام إمبراطورية أولاد الشوارع.. قد بدأت، بإصرار، رحلة جديدة إلى ربوع الأوجاع المركبة، عبر كتاب «ورقة في الريح القارسة» للكاتبة «تنغ هسنغ يي».ولم يكن يدفعني إلى استطلاع كل هذه العذابات الصينية إلا الطمع في العثور على السلوى، تبعا للمأثور القائل بأن من رأى مصائب غيره هانت مصيبته.ومع أن مصيبتي لم تهن- لا في عهد سلالة الهان ولا في عهد رفاق الهوان- فإنني كنت أواسي النفس، خلال رحلتي المؤلمة، بأنني لا أرى في ما أرى إلا مآتم الغرباء، وحسبي من ذلك أن أتشاغل، ولو إلى حين، عن مآتمي الشخصية التي عشت عمري كله وأنا أراها منصوبة في طول وعرض «بلاد العرب أوطاني» بفضل عدد من قطاع الطرق الأميين المدججين بالنياشين والأوسمة!غير أنني لم أنعم حتى بهذه المواساة المصطنعة التي وطنت نفسي على إغماض عينيّ وبلعها... إذ إنني وجدته أمامي، بكل حصافته ولطفه وثقافته ولياقته، وقدرته الهائلة على إشعاري بالخجل من نفسي، وبأثر رجعي، لا لشيء إلا لانتسابي إلى الأرض نفسها التي ابتليت به وبأمثاله.ولأن «السيئ بالسيئ» يذكر، دعني أقل أولا إن مآسي المواطنين الصينيين في عهد ماوتسي تونغ، لا يمكن حصرها في كتاب واحد، فعلى الرغم من تشابه سير هؤلاء المواطنين، فإن باستطاعة المرء أن يعثر في تجربة كل منهم على مشاهد جديدة توسع الجرح وتعمق الألم، وذلك بالضبط ما وجدته في كتاب «تنغ ـ هسنغ يي»، برغم أن تخمتي بالآلام التي صبّتها «يونغ تشانغ» و«آنتشي مين» في نفسي قد جعلتني أعتقد أنني قد أحطت بالمأساة الصينية كلها ولم أعد بحاجة إلى مزيد.لن أستعرض هذا الكتاب، لأنني إذا شئت ذلك فسأحتاج إلى تأليف كتاب جديد، لكنني سأكتفي بعبرة ونموذج... فأما العبرة فهي أن ما نلقاه من عنت وعذاب تحت أيدي قطاع طرق الإصلاح الداخلي عندنا هو ليس إلا ترجمات عربية رديئة، مزيدة أحيانا، ومكبرة أحيانا أخرى، وغير منقحة دائما، للنسخة الصينية المترجمة بدورها عن أسوأ نسخ الشموليات البغيضة في الشرق أو في الغرب.وأما النموذج فهو ظاهرة هيام الطغاة بالألوان، على الرغم من كونهم أبناء الظلام وحارسيه!في تجربة الصين المرة، قام اللون الأحمر بديلا لبوذا، وانتصب الكتاب الأحمر بديلا لكونفوشيوس، الأحمر هو اللون المقدس الذي انتظم أسماء البشر، والمعاني، والمباني، وجميع المناسبات.وبأثر من هذا الولع المرضي الخارج على المنطق والذوق، نجد أن بعض القادة العقائديين جدا في صين ماو، قد اقترحوا بحماسة ثورية منقطعة النظير، تصحيح عمل إشارات المرور لتستقيم وفق النهج الثوري، وذلك بجعل اللون الأحمر إشارة للانطلاق، واللون الأخضر إشارة للتوقف، على نقيض ما يجري في جميع أنحاء العالم! ولأعد الآن، إلى ذكر البلاء الذي فاجأني بطلَّته فيما كنت أحاول التشاغل عنه بمواجهة بلاء الآخرين، لقد انتهت «تنغ هسنغ يي» في أواخر تجربتها المريرة، إلى العمل مترجمة للوفود الرسمية الزائرة للصين، وهو عمل كانت تقوم به تحت سطوة رقباء عليهم هم أيضا رقباء لا يغفلون!تروي الكاتبة بعض وقائع مرافقتها لمسؤولين أجانب كبار، وشخصيات ملكية من الشرق والغرب، فتدهشنا بذكر بساطة هؤلاء الناس وعفويتهم وتواضعهم، وتميز زياراتهم باللطف والهدوء، وانصرافهم كمقدمهم مثل نسمات عذبة.ومن أمثلة ذلك أن ملكة إسبانيا شكرت كاتب مخزن لأنه لفت نظرها إلى تنسيل في جواربها، وأن «السيدة شولتز» زوجة وزير خارجية أميركا الأسبق كانت امرأة لطيفة وودودة، وأن «إيد كوغ» عمدة نيويورك، لم يتورع عن مغافلة حراسه، ليجرب كنس أحد شوارع شنغهاي بمكنسة من صنع صيني، لتجربتها من أجل عقد صفقة لشراء عدد منها لمدينته!لكن الكاتبة، سامحها الله، لا تلبث أن تنصرف عن هذا كله، لتوجه صفعة عنيفة إلى وجهي. تقول: «أما القائد الليبي العقيد القذافي، فقد كان يمثل نوعا آخر من المشاكل، كنت أتطلع إلى رؤية رجل سمعت عنه كثيرا، ووصفته البلدان الغربية بأنه مجنون، بينما اعتبرته الصين صديقا عظيما (قرين الشيء منجذب إليه)، ففي خريف 1982 تلقى ترحيبا حارا عندما زار بكين، وقبل عودته إلى ليبيا أقيمت وليمة كبرى على شرفه في شنغهاي بدعوة من عمدة المدينة، وعندما وصلت إلى قاعة الولائم علمت أن القذافي رفض الحضور كان غير راض عن المحادثات في بكين، وكان رفضه حالة غير مسبوقة في خرق البروتوكول... وقد حاول أناس مختلفون ثنيه عن قراره، ففشل الجميع، واختصر القذافي زيارته وغادر في اليوم التالي، وفي المطار كان جل ما رأيت منه هو حركة عباءته السوداء الملتفة وهو يركب الطائرة»!أما عن خرقه البروتوكول فذلك أمر لا يدهشني، لأنني وجميع العرب الكرام نعلم أنه من أصحاب السوابق واللواحق في خرق كل شيء... لكنني أتساءل عما جرى حقا في محادثاته مع المسؤولين الصينيين في بكين، حتى بلغ به الأمر هذا الحد من عدم الرضا، ولا أستطيع منع نفسي من التفكير في مسألة الألوان، فهل يكون قد نمى إلى علمه تفكير القيادة الصينية بالإصلاح الداخلي لإشارات المرور، فشعر من جراء ذلك بالإهانة الشاملة التي تنسف كل المكاسب الثورية التي بذل الغالي والنفيس من أجل أن يحيا الليبيون في نعمها الخضراء... من الثورة إلى الساحة إلى الزحف إلى الكتاب الى تفسيرات الكتاب؟!كل شيء في ليبيا كان ولايزال أخضر... إلا ليبيا، وسبب ذلك بالتأكيد هو أن حظها العاثر الذي جعلها من مكاسبه، لم يجعله في يوم من الأيام واحدا من مكاسبها!* شاعر عراقي كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
حديقة الإنسان: ... ولو في الصين!
27-03-2009