الانتخابات والإنشاء السياسي

نشر في 10-05-2008 | 00:00
آخر تحديث 10-05-2008 | 00:00
 ياسر عبد العزيز في برنامجه المثير للجدل «أمة 2008»، على تليفزيون «الراي»، استضاف الإعلامي المميز محمد الوشيحي ستة من مرشحي الدائرة الثالثة، بانتخابات 17 مايو الجاري، في مناظرة سعى إلى أن تكون متكافئة وعادلة بقدر الإمكان، وكاشفة عن إمكانات المرشحين وبرامجهم ورؤاهم، والسياسات التي يعتزمون تبنيها في حال نجحوا في الوصول إلى البرلمان المنتظر.

وعلى غرار البرامج المشابهة في الكثير من وسائل الإعلام، كشفت الحلقة، التي أذيعت أمس الأول، عن الفروق بين المرشحين من زوايا كثيرة؛ منها إلمامهم بالملفات الساخنة التي يجب أن يتصدى لها البرلمان المنتظر، وقدراتهم السياسية، ومواهبهم الخطابية، ومدى تأثيرهم في الجمهور، عبر الاستخدام الفعّال للحجج؛ المنطقي منها والعاطفي، لكنها أيضاً، وفوق هذا كله، كشفت اعتواراً جوهرياً وخللاً خطيراً في الخطاب السياسي للمرشحين.

ففي سؤال واضح وجهه المقدم للمتبارين الستة عن «الآليات المتوقع تفعيلها من قبلهم، في حال انتخبوا أعضاء بالبرلمان، حيال مبادرة الأمير بتحويل الكويت مركزاً مالياً وتجارياً إقليمياً»، بما يحقق هذه المبادرة، وينقلها من خانة الاقتراح والرؤية إلى حيز الوجود على الأرض وفي الواقع، لم نتلق إجابة منطقية متكاملة واحدة، وكل ما تيسر الحصول عليه، في هذا الصدد، كان محض إنشاء سياسي.

والواقع أن مثل هذا البرنامج جسد بوضوح أزمة حقيقية تعانيها الحياة السياسية في الكويت والكثير من البلدان العربية، وتتبلور هذه الأزمة خصوصاً في مواسم الانتخابات والاستحقاقات السياسية الرئيسة؛ إذ تغيب البرامج والسياسات والآليات في الخطاب السياسي الذي تتداوله الأطراف كلها، ويحل محلها كثير من الإنشاء؛ الذي يتفاوت من جهة متانته وتماسكه وجاذبيته تفاوتاً ملحوظاً، لكنه يتفق جميعه في افتقاده للتحديد والعملياتية والقابلية للتنفيذ.

يهيمن الإنشاء السياسي بوضوح على الخطاب السائد قبل المعركة الانتخابية المنتظرة في الكويت؛ ويتنافس المرشحون على حصد الأصوات عبر قدرات خطابية وفرقعات كلامية، فتظهر السياسة وتغيب السياسات، ويصبح المعيار الذي يحدد به الناخب مرشحه المختار شكلياً لا موضوعياً، بلاغياً لا مضمونياً، وبدلاً من أن يتنافس المرشحون على برامج وأجندات وسياسات يمكن أن تنقل البلاد نقلة حقيقية إلى الأمام، يتبارون في الجدل والسفسطة وألعاب الكلام.

لقد اتفق المرشحون المتناظرون الستة جميعهم في عدم إعطاء إجابة محددة واضحة عن السؤال، وراحوا جميعاً يستهلون حديثهم بخلفيات وسياقات يعلمها القاصي والداني؛ ومن ذلك «أن الكويت تستحق أن تكون مركزاً تجارياً ومالياً إقليمياً، وأن دولاً كثيرة في المنطقة سبقتها إلى هذا رغم جدارتها وأسبقية إدراكها لاستراتيجية موقعها وحاجاته وفرصه وإمكاناته الواعدة». ثم زاد المتناظرون جميعاً أن «الكويت لديها فوائض مالية كبيرة، وسمعة وكوادر بشرية، وبنية تشريعية ومؤسسات مالية»، واتفقوا على أن «بداية تحقيق هذه الرؤية تكمن في الإرادة الشعبية والسياسية؛ إرادة الحكومة والبرلمان والشعب والمؤسسات».

ثم راحوا يؤكدون أن «محاربة الفساد واجبة؛ لأنه في حال استمرت حالات الفساد بوتيرتها الراهنة فإن تحقيق هذا الهدف سيكون صعباً لا محالة، وبالطبع فإن محاربة الفساد تلزمها إرادة أيضاً، وتطبيق القوانين السارية بصرامة، بل ربما سن قوانين أخرى لمزيد من الفاعلية في تلك الحرب الشرسة».

القطاع الخاص أيضاً ضروري، الجميع اتفق على «حيوية أدوار هذا القطاع ووجوب إتاحة الفرص أمامه للنهوض بمسؤوليات تطوير وضع البلاد نحو تحقيق تلك الرؤية». الجميع أجاب عن السؤال بالطريقة نفسها، وربما استخدم العبارات نفسها، وكلهم التزموا الوقت المحدد، لكن أحداً لم يعط إجابة، ولم يحدد الأدوات البرلمانية المتاحة له لتفعيل الرؤية، ولم يصف كيفية استخدام تلك الأدوات من أجل تحقيق هدفه.

جميع ما ورد في إجابات المرشحين المتناظرين لم يخرج عن الإنشاء السياسي المتداول في المنتديات وعلى صفحات الجرائد؛ الكل يتحدث عن «الفساد»، وعن «غياب الإرادة السياسية للإصلاح وتنفيذ المشروعات المهمة». الجميع متفق على «ضعف البنية التحتية، وضآلة المطار ومحدودية سعته، وعدم بناء ميناء بالبلاد منذ عقود، والفوائض النفطية الكبيرة التي لم تحل دون قصور الخدمات الصحية والتعليمية»، لكن أحداً لم يضع برنامجاً واضحاً محدداً للاستفادة من الأدوات البرلمانية المتاحة لمقاربة تلك المشكلات ومن ثم حلها.

لقد طورت نيويورك ولندن السوقين الأبرز على مستوى العالم، وجاءت سنغافورة وطوكيو على الطريق نفسه، وإقليمياً، كانت بيروت، والآن دبي والبحرين؛ وجميعها لم يمر بالمساجلات الكلامية الدائرة الآن في الكويت.

على النواب العتيدين أن يفكروا في السياسات العامة والتخصيصية التي يجب أن تطرح لتفعيل مشروع مثل تحويل الكويت مركزاً مالياً وتجارياً إقليمياً، ثم عليهم أن يحددوا الأدوات البرلمانية المناسبة لتفعيل رؤاهم، وأن يقللوا إلى أقصى درجة ممكنة استخدام الإنشاء السياسي الذي لم يحقق أي تقدم يذكر من قبل.

* كاتب مصري

back to top