هو الحادث الثالث من نوعه، بعد عصيان سجن «عدرا» المدني أوائل العام الماضي، وأحداث سجن «صيدنايا» العسكري منذ أشهر قليلة. عصيان السجن الأخير نفسه هذه المرة يختلف عن الحدثين السابقين، لأن دماء سالت منه وضحايا وقعت على خلفيته.

Ad

حدث العصيان في حد ذاته ليس مستغرباً. خلال الأشهر الماضية، بلدان عربية أخرى كالأردن ولبنان شهدت سجونها أحداث تمرد مشابهة. ذلك أن أوضاع السجون في العديد من البلدان العربية تتشابه إلى حد التطابق، وفقا لتقرير حالة السجون العربية الصادر عن المنظمة العربية للإصلاح الجنائي عام 2006، والذي شمل أربع عشرة دولة، من بينها سورية والأردن وتونس ولبنان والكويت ومصر.

«فالمشاكل واحدة، والمعاملة واحدة، وردود الأفعال نفسها تقريباً مع الاختلاف في الدرجة، وبما يؤدي إلى إهدار حقوق السجناء كافة حتى تلك التي نصّت عليها قوانين وأنظمة السجون ذاتها، سواء من جهة الحق في المعاملة الإنسانية أو الحق في الرعاية الصحية أو الحق في الاتصال بالعالم الخارجي، والحق في التعليم...».

يدخل في هذا الإطار، وبغض النظر عن الأسباب المباشرة التي أشعلته، العصيان المستمر منذ ثلاثة أيام -حتى لحظة كتابة هذا المقال- في سجن «صيدنايا» العسكري، الذي يضم في معظمه سجناء متهمين بتبني السلفية الجهادية، بالإضافة إلى «تنويعة» واسعة من المعتقلين السياسيين الأكراد والديمقراطيين والإخوان المسلمين وسواهم.

لكن السجن هذه المرة، صدّر هيجانه إلى خارج أسواره. استمرار إغلاق أبوابه على أسراره الدفينة، والامتناع عن إصدار أي تصريح رسمي بشأن تفاصيل الحدث ومصير السجناء، باستثناء خبر مقتضب بثته وكالة «سانا» للأنباء في اليوم التالي للاعتصام، بالإضافة إلى الأنباء التي تناقلتها وسائل الإعلام عن بعض المنظمات الحقوقية، حول وقوع نحو خمسة وعشرين قتيلاً من بين السجناء، أثار ذلك كله هيستيريا حقيقية بين العائلات. تجمعات عفوية لمئات الأهالي تحولت إلى اعتصامات غير منظمة في غير مكان من دمشق، التي توافد إليها ذوو المعتقلين من المحافظات السورية جميعها، واعتصامات مماثلة في مدن أخرى، مطالِبة بالكشف عن مصير أبنائها.

تلك التجمعات العفوية والتعامل الرسمي معها، يعكسان إلى حد بعيد، كيف يمكن لمطالب متفرقة أن تتحول إلى احتجاجات جماعية، وكيف يمكن لليأس أن يتفجر بالغضب، وكيف لإساءة المعاملة والإذلال أن يشعلا فتيل الاحتقان وتوابعه. جرى التعامل مع الأهالي، وجُلهم من الآباء والأمهات الطاعنين في الس، بقسوة لا متناهية. تعرضوا للضرب والصفع والإهانة والتهديد، وكأنهم مَن نظم العصيان وقاده. أقصى مطالبهم كانت أن يعلموا مصير أبنائهم، وما إذا كانوا من بين مَن نقلوا إلى المشفى العسكري في سيارات الإسعاف التي لم تهدأ حركتها من السجن وإليه طوال ثلاثة أيام.

كان من الممكن ببساطة شديدة، أن يجري تخصيص جهة معينة لاستقبال الأهالي وتزويدهم بالمعلومات عن أبنائهم، أو تشغيل خط هاتفي ساخن لهذا الغرض، وغير ذلك كثير من الإجراءات التي من شأنها أن تهدئ من روع الآباء والأمهات بغير إساءة وإذلال. ومن دون إبداء ذلك السلوك الغريب الذي أبدى تململاً وسخطاً لقلق العائلات على أبنائها وإصرارها على معرفة ما إذا كانوا في عداد الأموات أو الأحياء.

ويصعب التمييز هنا، هل السياسة العقابية القائمة على القصاص والقسوة هي التي تسربت من داخل السجن إلى خارجه، أم أنها في الأصل ليست إلا انعكاساً لسياسة أوسع تمتد من الخارج نحو الداخل؟ والافتراض الثاني يغدو مؤكداً إذا نظرنا إلى الحدث وتوابعه ضمن إطار أوسع، بدءاً من رصيف محكمة أمن الدولة الذي يفترشه الأهالي منذ سنوات، ومنع الزيارات عن السجن لغير المحكوم عليهم، والمحاكمة التي تتأجل مرة بعد أخرى وتطيل أمد المعاناة، وتحديد الجلسات في أيام العطل الرسمية، وشبه استحالة حصول العائلة على معلومة صغيرة مثل تاريخ الجلسة، دونما إذلال لا ينتهي، والقائمة تطول وتطول.

الغريب حقاً، من حيث المبدأ على الأقل، أن تلك الممارسات جميعها وما ينتج عنها من إحساس بالظلم والقهر، يمكن أن تمارس بشكل مغاير تماماً، بشكل ينطوي على الاحترام وحسن المعاملة، مع الإبقاء على صورية المحاكمات، وبما يجنب توليد مشاعر الاحتقان المتراكمة تلك.

لكنها دائرة محكمة الإغلاق؛ لا تشكل فيها أحداث مثل تمردات السجناء حدثاً منعزلاً ضمن العوالم الخاصة للسجن كما في أماكن أخرى، بل هي امتداد لأحداث أخرى دائمة ومستديمة، يغذي بعضها بعضاً في الاتجاهين، من السجن نحو الخارج والعكس صحيح.

* كاتبة سورية