مآلات روسية أوروبية
تبدو موسكو، إن اتخذنا من القمة الروسية- الأوروبية التي انعقدت أخيراً في سيبيريا شاهداً أو أضفينا عليها بعض الدلالة، ساعية إلى تفعيل علاقاتها بالاتحاد الأوروبي، فضلاً عن بلدانه فرادى، وربما إلى أبعد من ذلك: إلى تفعيل ذلك الاتحاد قوةً تساهم في إنهاء استقطاب أوحد، تمكّن لمصلحة الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي.ذلك ما يُستشف، على سبيل المثال لا الحصر، من تصريح للرئيس ديمتري ميدفيديف، أدلى به في أعقاب تلك القمة، ورأى فيه أن روسيا ودول الاتحاد الأوروبي «قادرة على ضمان الأمن في ما بينها في شكل مشترك ومن دون تدخل خارجي (يعني ذلك الأميركي)»، فبدا بذلك كمن يحدد أفقا ومآلا استراتيجيَين لتلك القمة الروسية- الأوروبية التي تناولت قضايا الأمن بين الطرفين، سعياً إلى تقريب وجهات النظر في شأنها، إن استعرنا مفردات البيانات الرسمية، وأطلقت الحوار لتجديد اتفاق الشراكة والتعاون.
فهل لمثل ذلك المسعى من حظوظ نجاح؟ الأرجح أن روسيا تنشد في ذلك المضمار أمراً عسير المنال، إذ هي تقبل على راهن القارة القديمة بعقلية تعود، في عمقها ومن حيث النظرة الكامنة وراءها، إلى حقبة الحرب الباردة، بطبيعة الحال، ليس في ظاهر كلام المسؤولين الروس ما يشي بمثل ذلك، فلا عادت روسيا تتوسم في نفسها كفاءة في اقتراح عالم بديل عن ذلك الذي أرسته الرأسمالية وقادت تحولاته «البورجوازية»، على ما حاولت أن تفعل منذ ثورتها الشيوعية في بدايات القرن الماضي وحتى ذواء تلك الثورة وتلاشيها دولةً في أواخر القرن إياه، ولا هي تمتلك من الأسباب المادية ما يخولها خوض مثل تلك المنافسة على ما كانت حالها في السابق، وهي إلى ذلك واعية تمام الوعي بما آل إليه ميزان القوة.لذلك، فإن القول، إن روسيا ربما كانت مقبلة على راهن القارة القديمة بعقلية تعود إلى زمن الحرب الباردة، إنما يتعلق بأمر عيني وقِطاعي، هو النظرة الاستراتيجية إلى أوروبا لا يكاد يتعداها، وربما تمثل في السعي إلى إعادة تلك القارة إلى ما كانت عليه حالها أيام الاستقطاب الثنائي البائد، موضوعاً للصراع وللتجاذب بينها وبين الولايات المتحدة ومجالاً لهما. مشكلة مقاربة كهذه، أنها ما عادت تنطبق على واقع قائم أو قابل، في المدى المنظور، لأن يُجترح، ذلك أنه إذا ما وجدت من نتيجة أساسية أفضت إليها نهاية الحرب الباردة وحسمت أمرها، فهي تلك المتمثلة في «تحييد» القارة الأوروبية، بمعنى نسبتها إلى النفوذ الأميركي، على نحو ناجز مبرم لا لبس فيه، بعد أن كانت بؤرة الصراع الدولي، غايته ومنتهاه والخط التأسيسي لانقساماته واصطفافاته، حتى ليمكن القول إن عنوان النصر والهزيمة في تلك المواجهة آنذاك، يقيم نصاب قوة على الأرض، وليس الجوانب الإيديولوجية، فتلك أمرها نسبي، ما دامت الشيوعية لاتزال حية تسعى في بلد بحجم الصين، أو تلك المتعلقة بنمط أنظمة الحكم، مادامت الديمقراطية لاتزال تجد كبير مشقة في التمكن خارج مجالها الغربي «التقليدي».أضحت القارة الأوروبية إذن مجال نفوذ أميركي وانفراد به، بما يجعل من المتعذر استعادتها مجالا للصراع وللتجاذب الدوليين، اللذين أضحيا جاريين في مجال قاري آخر، هو ذلك الآسيوي، حيث تتكثف أسباب التوتر وعوامله: مصادر الطاقة وسباق التسلح النووي، والأصوليات المقاتلة، فضلا عن التنافس الاقتصادي. أضحت «الساحة» الأوروبية «ساحة» ثانوية، وأضحت، لثانويتها تلك، مجالاً أميركيا حصرياً، شأنها في ذلك شأن أميركا اللاتينية، مع ما قد ينطوي عليه هذا التشبيه من تعسف.ولعل ذلك ما يفسر الترتيبات العسكرية التي تقوم بها الولايات المتحدة على صعيد القارة القديمة، والتي تنبئ بتحول استراتيجي تراه عميقاً بعيد الغور: فهي من ناحية ماضية في إنشاء الدرع الصاروخية، تلك التي تثير حفيظة موسكو التي تراها فعلا عدوانية، وهي من وجه آخر، منهمكة في سحب قنابلها النووية من «المسرح الأوروبي»، كما كان يُقال أيام الحرب الباردة، على ما تم في الآونة الأخيرة من قاعدة أميركية في بريطانيا، مفاد الخطوة الأخيرة أن واشنطن ما عادت تعتبر المجال القاري الأوروبي ساحة مواجهة محتملة، تتطلب حماية من ذلك القبيل، ومفاد الخطوة الأولى، تلك المتمثلة في الدرع الصاروخية، أن التهديدات المحتملة إنما أضحت من خارج القارة، بعد أن استُكمل الاندحار الروسي «السوفييتي» منها، وأن الطور المستجد ذاك أضحى، بمقاييس ميزان القوة، راسخاً لا رجعة فيه.لكل ذلك، يبدو المسعى الروسي إلى استعادة أوروبا ساحة صراع نفوذ وتجاذب تكون موسكو طرفاً فيه، أمراً مستبعدا راهناً أو، في أفضل الحالات، بعيداً أمداً... خصوصاً أن القارة الأوروبية لم تهتدِ إلى وسائل لأمنها غير تلك التي توفرها لها الولايات المتحدة، ولا تبدو قادرة على اجتراح تلك الوسائل في الأمد المنظور.* كاتب تونسي