أما وقد انقسمت المنطقة معسكرين وفسطاطيْن، تبديا إبان العدوان الإسرائيلي على غزة على النحو الأجلى والأكثر دراماتيكية، فتوزعت «استقطابا ثنائيا» بين «معتدلين» أو «كيانيين» من جهة، و«مقاومين» أو «ممانعين» من جهة أخرى، واستفحل الانقسام ذاك حتى أتى على كل حدٍّ أدنى إجماعي، عاش عليه العرب حيال المسألة الإسرائيلية أو أوهموا النفس والآخرين بوجوده، ففي ذلك ما أضحى يتطلب توقفا عنده ويستوجب تمعّنا فيه.
ظاهريا، وفي حدود ما عبّر به ذلك الانقسام عن نفسه، هجاء متبادلا، وقمما عربية وأخرى لها مضادة، يلوح الأمر ذاك تباينا، فاق حدود الرأب واستعصى عنه، بين مقاربتين للمسألة الإسرائيلية بلغتا مبلغ التنافر، الأولى هي تلك التي يأخذ بها «المعتدلون»، وهذه لاتزال تبجل منحى «التسوية» ولا تيأس من نيلها والتوصل إلى إرسائها، مستندة في ذلك إلى معطيات قد تراها ماثلة، ملزمة أو ملائمة، من حال ميزان القوة وما آل إليه، إلى كون فكرة «التسوية»، على أساس حل الدولتين، لا تُواجه برفض إسرائيلي صريح، وإلى كونها الحل الذي يؤيده العالم وما يُسمّى بـ«الشرعية الدولية»، ناهيك عن كونها قابلة، أقلّه نظريا، للاندراج والتحقق ضمن النسق الكياني الذي قام واستتب على صعيد المنطقة منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية.لوهلة أولى، يلوح المنطق هذا متجانسا متماسكا، على قدر من صلابة إن قيس بمعيار الواقعية السياسية، وهو إلى ذلك مُتبنّى من قبل المحور العربي الأقوى، ذلك الملتئم حول كل من مصر، صاحبة سابقة اتفاقات «كامب ديفيد»، ومن السعودية، صاحبة «المبادرة العربية»، والذي يضم في عداده السلطة الوطنية الفلسطينية التي تبقى، مهما بلغت من ضعف ومن انكفاء ومهما سيمت من انتقاد، مناط الاعتراف الدولي بالواقعة الوطنية الفلسطينية.وتلك سماتُ ومواصفاتُ انسجامٍ واتساق لا تتوافر في «المعسكر» المقابل، ذلك الذي رفع لواء «المقاومة» و«الممانعة»، فهو لم يلتئم حول قوى وازنة أو مسلّم لها بالقيادة، بل إنه متى ما أوحى بذلك، استثار شبهة التشيع أو التحزب إلى قطب أجنبي، بمعنى غير عربي، قُصد به إيران. ثم إن المعسكر ذاك لم يأتِ ببديل عن سياسة «التسوية» كمبدأ، ولا عن تلك «التسوية» التي ينشدها العرب بالتحديد، في حين لم يتخطّ تعلقه بالمقاومة عتبة التغني والإشادة والتعويل على صمود أهل غزة، إلى أجل غير معلوم ودونما تحديد غاية عينيّة يراد بلوغها وتُجنّد الطاقات في سبيلها، عدا التحرير الشامل، وهذا حكما طويل المدى ويتطلب استراتيجية، لا نرى لها أثرا، من نفس الطينة.هذا خلا عن كون «الممانعين» لم يبدوا حسما في التعاطي مع إسرائيل من النوع الذي افتقر إليه «المعتدلون»، فسورية كانت قبيل العدوان الأخير على غزة ضالعة في تفاوض غير مباشر، بواسطة تركيا، مع الدولة العبرية، كان قد تقدم بعيدا، واكتفت بتعليقه، و«حزب الله» اللبناني سبّق اعتبارات محلية، أو ربما إقليمية، فتجنب كل تصعيد مع إسرائيل إبان محنة غزة، أما قطر (التي لا يتبيّن المرء أحيانا إن كانت هي التي توجّه قناة «الجزيرة» أم أن الأخيرة هي التي توجه سياساتها) فكان أقصى ما بلغته من راديكالية أن قررت أن تجمّد، لا أكثر، مكتبا للاتصالات مع الدولة العبرية، أقامته على ترابها، دون أن يُفهم لماذا أُقيم ذلك المكتب أصلاً، على حد تساؤل أحدهم مرةً.لكل ذلك، يبدو معسكر «الممانعة» مضطربا مختلا متهافتا، لا يمكنه أن يدعي انتصارا، في حين لاح معسكر الاعتدال أكثر تماسكا، وهو الذي أدار، بالرغم من كل هناته، تبعات حرب غزة على الصعيد الداخلي العربي. فمصر هي التي أفشلت مسعى، إن وُجد، يرمي إلى توريطها في المسؤولية على قطاع غزة، عودا بها إلى ما كان حالها قبل حرب سنة 1967، واعتبرت ذلك واجبا وطنيا وقوميا (يحافظ على الوطنية الفلسطينية) في آن، وهي التي كانت صاحبة الدور الفاعل في إجهاض قمة الدوحة، منتزعة بذلك زمام المبادرة من «الممانعين»، أُصيلين كانوا أو طارئين، وفرضت، بمعية المملكة السعودية ودول أخرى، اعتماد قمة الكويت إطارا جامعا والاحتكام إليها... هذا قبل أن تلجأ إليها حركة «حماس» وسيطا لتثبيت التهدئة مع الدولة العبرية.كل ذلك للقول بأن معسكر «الممانعة» لم يفلح، لكل تلك العوامل التي سبقت الإشارة إليها، في بلورة بديل عن السياسة التي يتوخاها «المعتدلون» وإن رفع عقيرته بحادّ النقد حيالها، فلم يبق من تلك المشادة غير أمر واحد، تذرع بمحنة غزة دون أن يكون له فعل لا في نصرتها ولا في التخفيف منها، لإطلاق ضرب من حرب «أهلية عربية» لاتزال تتوالى فصولا، وكانت بعض الثمار المر للعدوان الإسرائيلي الأخير.أما الدولة العبرية، فيبدو أنها قد حصَّنت نفسها بإحكام ضد كل من التسوية ومن المقاومة، تجهض الأولى وتجعل الثانية بالغة التكلفة، في حين «يسهر القوم (العرب) جراها ويختصم».*كاتب تونسي
مقالات
... والقوم يختصم
17-02-2009