ليس هناك حصر للقصص والروايات الرائعة التي خلفها المبدعون، شرقا وغربا على مختلف العصور، لكن هناك ما يشبه الإجماع على روعة وتميز عدد محدود من البدايات التي افتتح بها بعض المبدعين أعمالهم القصصية.

Ad

وليس المقصود هنا قدرة الكاتب على جذب قارئه وتشويقه منذ الصفحة الأولى للكتاب، إذ لا حصر أيضا، للموهوبين القادرين على ذلك، خاصة أن البداية الجيدة والمحكمة كانت، ولاتزال، الهمّ الأكبر لجميع القصصيين، باعتبارها المؤشر الأول لانشداد القارئ أو تردده أو تركه العمل الأدبي برمّته.

لكنّ المقصود هو تلك البدايات التي لا تتعدى فقرة صغيرة، أو جملة قصيرة قد لا تكون غريبة أو ذات بلاغة عالية، لكنها مع ذلك تملك من السحر وقوة التأثير، ما يجعلها تترك بصمتها المميزة في نفس القارئ، سواء بحمولتها الخاصّة وحدها، أو بأثر النص كلّه بعدما ينتهي القارئ من مطالعته، فإذا تردّدت على مسمعه عبارة الافتتاح تلك، في الأعوام اللاحقة، أحس بحرارة الميسم التي أحسها عند قراءة العمل الأدبي من قبل، وعادت إلى ذهنه حرارة العمل كلّه.

ولكي نعلم مقدار أثر مثل تلك البدايات التي تحولت إلى ما يشبه (الأيقونات)، علينا أن نصغي باهتمام إلى ما يقوله واحد من أعظم الروائيين في عصرنا، عن شدة الأثر الذي طبعه في نفسه مفتتح قصة فرانز كافكا «المسخ»:

«عندما استيقظ غريغور سامسا ذات صباح من أحلامه المزعجة، وجد نفسه وقد تحول، في فراشه، إلى حشرة ضخمة جداً».

يقول «غابرييل غارسيا ماركيز» إنّه عندما قرأ هذا في بداياته، أدرك، من خلال دهشته وانبهاره، أنّ كل شيء ممكن في القص.

ولعلّه وجد في ذلك حافزاً لا يرد على أن يمضي في سبيله بجرأة غير معهودة، ليطلع علينا في النهاية بشيء لا عهد لنا من قبل اسمه (الواقعية السحرية).

ولعلّ «ماركيز» يعلم أيضا أن العبارة الأولى في عمله الكبير «مئة عام من العزلة» قد كان لها، على بساطتها، التأثير ذاته في نفوس قرائه، مما سيجعلها واحدة من البدايات الخالدة:

«بعد أعوام عديدة، فيما كان يواجه كتيبة الإعدام، تذكر العقيد أورلياندو بوينديا عصر ذلك اليوم البعيد الذي أخذه فيه والده لمشاهدة الثلج».

لكن هل كان الكاتب النرويجي «كنوت هامسون» يتخيّل أن تعبيره الافتتاحي عن أثر مدينة كريستيانا على نفس بطل روايته «الجوع» سيكون له الوقع ذاته على نفوس قراء الرواية على مر الأعوام؟

يفتتح «هامسون» روايته هكذا: «حدث هذا في تلك الأيام التي كنت فيها مشرداً أتضور جوعاً في مدينة كريستيانا، تلك المدينة العجيبة التي لا يغادرها أحد قبل أن تسمه بسماتها وتترك عليه آثارها».

وكذلك لا يغادر أحد رواية «الجوع» دون أن تسمه بسماتها وتترك عليه آثارها، بحيث يكفي أن يسمع الفقرة الافتتاحية، لكي يستعيد الأثر الموجع للرواية كلّها، مهما تباعدت الأعوام، إذ إنّ تلك الفقرة هي تلخيص مكثّف للمرارة التي احتوتها الرواية، حيث انتصب التشرد والجوع بطلين أساسيين فيها.

وفي رأس قائمة تلك البدايات التي لا تنسى، تأتي رواية «آنا كارنينا» لتولستوي: «كلّ الأسر السعيدة متشابهة، أمّا الأسر التعيسة فلكّل منها تعاستها الخاصة المميزة».

إنّها واحدة من «الأيقونات» التي تكرست على مر العهود، سواء من قبل القراء العاديين أو من قبل المبدعين الكبار، فعلى الرغم من عظمة جميع أعمال تولستوي، تبقى «آنا كارنينا» في قمة هذه الأعمال، وفي قمة جميع الأعمال الأدبية الأوروبية أيضا، كما رأى «ديستويفسكي» وتبقى افتتاحيتها في الصف الأول من تلك الافتتاحيات ذات الأثر الدائم.

أما الكاتب الإنكليزي «تشارلز ديكنز» فيأخذ مكانه في هذا الصف بفعل البداية الرائعة لروايته الخالدة «قصة مدينتين»: «كان أفضل الأزمنة، وكان أسوا الأزمنة. كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة. كان عهد الإيمان، وكان عهد الشك. كان موسم النور، وكان موسم الظلام. كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط. كنا نملك كل شيء أمامنا وكنا لا نملك شيئا مما أمامنا. كنا جميعا ذاهبين مباشرة إلى الجنة، وكنا جميعا ذاهبين في الاتجاه الآخر»!

إن قراء «ديكنز» قد ينسون الكثير من تفاصيل قصصه المؤثرة وقد ينسون حتى الموقف الموجع للصغير اليتيم الجائع «أوليفر» في مفتتح رواية «أوليفر تويست» وهو يطالب بمزيد من الحساء... لكنهم لا يمكن أن ينسوا مطلع «قصة مدينتين» الحافل بكل المتناقضات، والعابر من تشخيص حال مدينتين هما لندن وباريس، إلى تشخيص موجز وحاد ومؤلم لحال الجنس الإنساني الذي تنفصم مدينته نفسها إلى مدينتين وينقسم زمنه ذاته إلى زمنين!

البدايات القصيية المميزة قد تكرست، غالبا نتيجة تطاول العهود، وازدحام المارة على دروب الأعمال الأدبية المذكورة على مختلف الأزمان، وإذا كنت قد ذكرت تلك البدايات فليس لأنها البدايات المميزة حصرا، إذ لا ريب أن هناك كثيرا مثلها، لكنني انحزت إلى النماذج التي وجدتها أكثر شيوعا، نتيجة متابعتي، وهي متابعة محكومة بسقف قراءاتي الذي أعترف بأنه ليس عاليا بما يكفي للإحاطة بكل تلك البدايات.

بقي القول إن الحافز الذي حرك في ذهني شرارة هذا الموضوع هو مفتتح رواية «انتظار» للكاتب الصيني «ها-جن»... إذ إنني حال وقوع عيني على هذا الطعم الذي وضعه لاصطياد القارئ، وجدته مؤهلا لدخول موسوعة البدايات المميزة من أوسع أبوابها، إذا اتسعت شهرة الرواية، وتعددت منافذ ترجمتها إلى مختلف اللغات.

يقول «ها-جن» في السطر الأول من روايته: «كل صيف، كان لن كونغ يعود إلى قرية البجع من أجل تطليق زوجته شو-يو»! هل يمكن لمثل هذه البداية أن تمر على القارئ دون أن تنطبع في ذاكرته إلى الأبد؟

لا أعتقد.

* شاعر عراقي