لا تنفع الأجوبة المباشرة والبسيطة والسهلة في الرد الكافي والشافي على أسئلة من قبيل: هل ينسجم الإسلام مع العلمانية أو الديمقراطية؟ لأن هذه التساؤلات تبدو بطبيعتها ليست من متاع الروح اللطيف، بل هي من رواسب التاريخ الغليظ، أي أنها مستغرقة في علاقات القوة، وتوازناتها الآنية والبعيدة، وفي الصراعات الاجتماعية التي تتفاعل في مجتمعاتنا، وفي عنف صدام القوى المادية التي تتحرك في حياتنا وحولنا بلا هوادة.

Ad

وانبثاقا من هذا التصور الكلي والنظري توزع المجيبون عن سؤال من قبيل: هل يمكن بناء تيار إسلامي ديمقراطي؟، إلى فريقين، الأول يؤكد استحالة ذلك، بدعوى أن هناك أسبابا هيكلية كامنة في بنية الخطاب الديني والسياسي للجماعات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، تجعلها، بحكم طبيعتها العقدية، عاجزة عن الانفتاح الكامل على قيم الديمقراطية. أما الثاني فيرى أن ذلك ممكن، إذ لا توجد، في نظره، معوقات نظرية أو عقدية تحول دون اندماج التيارات الإسلامية السلمية في عملية التطور الديمقراطي، والفيصل الأساسي هنا هو مدى تمتع البيئة الاجتماعية والسياسية المحيطة بهذه التيارات بالديمقراطية. وهنا يجب أن نفرق بين «الصراطي والتاريخي» في الإسلام؛ فالأول، يؤكد أنه لا شيء في تعاليم الإسلام وعقائده يشير إلى إمكان انسجامه مع الاستبداد والفساد. والثاني، يقول بوضوح إن المسلمين قد انسجموا أو توافقوا بسرعة مذهلة مع الحكم الملكي الوراثي. وفي حقيقة الأمر، وحسب كتاب «نحو تيار إسلامي ديمقراطي» الذي حرره الدكتور عمرو الشوبكي، فإنه لا يوجد خطاب ديني معاد بحكم طبيعته للديمقراطية، أو غير قادر،لأسباب بنائية، على التحول في اتجاه تبني الديمقراطية والتعددية الحزبية، والنضال السلمي، حتى لو ظلت هناك قوى هامشية ترفض الديمقراطية، وتمارس العنف، ستكون في ذلك مثلها مثل قوى يمينية أو يسارية هامشية ومتطرفة، واقعة خارج قيم التوافق العام في المجتمعات الديمقراطية في أوروبا. إن الحديث عن مشكلة بنائية، تباعد بين الإسلام والديمقراطية، وتقربه في الوقت نفسه من العنف، هو محض افتراء على هذا الدين، الذي يجعل من «التفكير ضرورة»، ويترك الباب واسعا أمام الاجتهاد، ويجعل وزر المظلوم الساكت على الظلم مثل وزر الظالم، ولا يجعل طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ويجعل العبودية لله، وليست للبشر، سواء كانوا حكاما، أم أصحاب مناصب، ويجعل من الإنسان خليفة لله في الأرض، فليس لأحد أن يستعبده أبدا، وليس من حق أحد أن يغل يده إلا بحق. كما أن مفهوم السياسة في الإسلام، يحيلها إلى الرشد، ويضفي عليها طابعا أخلاقيا، بحيث لا تصبح «فن الممكن» أو «لعبة قذرة»، كما هو معتاد في القراءة الميكافيللية للسياسة، بل تبقى دوما هي استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل... وتدبير المعاش مع العموم على سنن العدل والاستقامة. إن ما ران على حالنا من تكلس ليس لعيب بنائي في الإسلام لكنه تقاعس من قبل المسلمين أنفسهم، الذين ارتضوا أن يدفنوا رؤوسهم في بطون بعض الكتب الصفراء، وأضفوا قداسة لا شعورية على بشر أمثالهم من الفقهاء الأوائل، واكتفوا بما جادوا به وبعضه لا يصلح لزماننا هذا. وقد حاول بعض المجددين إصلاح الخطاب الديني من داخله، وآخرون اعتقدوا في إمكان أن يرشح عطاء الغرب الفكري والسياسي والاجتماعي على التصورات الدينية المصرية، فيحرر ما اتصل منها بالحركة والسلوك خارج طقوس التعبد وجواهر الاعتقاد من ربقة الماضي. لكن أتباع الفريق الأول لم يتخلصوا بالكلية من تأثير بعض النصوص البشرية المتراكمة على هامش النص المؤسس، من خلال مسيرة التأويل والتفسير وتبرير الاستشهاد والإحالة. أما أنصار الفريق الثاني فباعدوا في كثير من طروحاتهم بين المتاح والمفترض، أي بين ما يتبناه الناس وما يفرضه النهوض بواقع الحال والأفكار. وذلك حوَّل مشاريع هذا الفريق إلى «آراء نخبوية»، لم تخرج كثيرا من قمقمها، وأصيب أصحابها مع الأيام بنوبات من الاكتئاب والانسحاب جراء الشعور بعدم الجدوى، أو الخوف من اتهامهم بالمروق والفسوق إن لم يكن «الكفر الصريح».

وتسود بين هذين الفريقين لغة من النبذ والتجاهل، بما يرمي بهما في فلك صراع يشتد أواره أحيانا ويخفت أحيانا، لكنه لا ينتهي أبدا، بدلا من أن يحدث النقيض، وينشأ نوع من «التكامل» أو «التنسيق» تحت راية «التسامح» وتقبل «الآخر» والإيمان بضرورة «الحوار» حتى بين الأضداد. فمن شأن هذا التنسيق أن يفتح ثغرة في هذا الجدار الأصم، الذي يحول دوما، دون تجديد الأفكار الدينية أولا، ثم تجذيرها في الذهنية والنفسية الشعبية ثانيا، بحيث تكتسب «شرعية اجتماعية» تجعل المنافحين بها والمدافعين عنها في مأمن من رميهم بالفسوق، وهي التهم التي طالما بذرت خوفا في قلوب كثير من المصلحين، فانطووا على ما في قرائحهم، والتزموا الصمت، خصوصا أن التشريعات والقوانين السائدة، بها من المواد والبنود ما يضع هؤلاء في موضع المساءلة، ناهيك عن المؤسسات الدينية الإسلامية التي تمارس نوعا من الرقابة على ما ينتج من أفكار، وتجد دوما من الناس أكثرية تسمع لها، مهما كانت آراؤها قد جانبها الصواب حيال بعض القضايا، وتجد من السلطة دعما، في أغلب الأحوال، لأن الأخيرة تستمد جزءا كبيرا من شرعيتها من ادعاء الاهتمام بالدين والعمل على نصرته.

* كاتب وباحث مصري