قصة الاختراق السعودي للجامعات الأميركية
يتخيّل بعض المراقبين والباحثين الأميركيين، أن السعودية -إيديولوجياً- هي الآن بقوة الاتحاد السوفييتي في عزِّ مجده، وأنها تسعى إلى «سعودة» العالم على غرار الاتحاد السوفييتي الذي كان يسعى إلى نشر الشيوعية في العالم.-1 تشير الإحصاءات الأميركية، وظواهر العلاقات الثقافية السعودية- الأميركية، خصوصاً من خلال عدد الطلبة المبتعثين الى الجامعات والمعاهد الأميركية في الولايات المختلفة، إلى أن السعودية هي أكبر بلد عربي وإسلامي له علاقات بأميركا ثقافياً وتعليمياً، وإلى أن الطلبة السعوديين في الجامعات والمعاهد الأميركية المختلفة أصبحوا ظاهرة علمية وثقافية مميزة كماً ونوعاً. ولولا بعض التشدد الديني الذي يظهره بعض الدُعاة داخل السعودية لرأينا الروابط الثقافية والتعليم الأميركية داخل السعودية أوثق وأكبر مما عليه الآن.
فالطلبة السعوديون في أميركا -كما قلنا- ظاهرة ثقافية وتعليمية على العكس من الأميركيين في السعودية؛ لذا، فإن اقتراح تخصيص حزمة من المنح الدراسية السنوية للطلبة الأميركيين للمجيء إلى السعودية، والعيش فيها فترة الدراسة، وتعلم اللغة العربية، والتخصص في المواد الإنسانية العربية الإسلامية المختلفة، لكي يكونوا سفراء غير مفوضين للعرب والإسلام في أميركا، اقتراح جدير بالنظر من قبل المسؤولين. وكذلك الحال بالنسبة الى الطلبة الأوروبيين، فالسيطرة على الصراع المفتعل بين الشرق والغرب لن تتم، إلا إذا أجري حوار وتلاقح جديين بين ثقافتي الشرق والغرب، وأعتقد أن السعودية بوضعها وامكاناتها الحالية، هي القادرة أكثر من أي دولة عربية أخرى على القيام بذلك، ولا أريد أن أعدد الفوائد الثقافية التي ستعود على السعودية، وعلى العرب، وعلى الإسلام، من جرّاء تنفيذ مثل هذه الخطوة، ولكن لمعرفة هذه الفوائد الجمّة، دعونا نتذكر الفوائد الجمّة التي عادت في الماضي وستعود في المستقبل على السعودية من جراء ابتعاث هذا العدد الكبير من طلابها إلى أميركا وإلى الغرب عامة، فرغم قلة المعلومات عن عدد الطلبة السعوديين المبتعثين في السنتين الأخيرتين إلى أميركا، والذي يُقدّره البعض بعشرين ألف طالب وطالبة، فإن هذا العدد مهما كبُر أو صغُر، فسيبقى أكبر من عدد الطلبة المبتعثين إلى الغرب من العالم العربي مجتمعاً.-2 وهذا ما يُطلق عليه بعض المراقبين «الاختراق السعودي» للجامعات الأميركية، باعتبار -كما يعتقد بعضهم- أن الطالب السعودي لا يلتحق بالجامعات الأميركية لكي يتلقى العلم فقط، ولكنه يأتي أيضاً كحامل رسالة -بغض النظر عن محتواها وضرورتها- داعياً إلى «الإيديولوجيا» السعودية -إن وُجدت- أو محرضاً زملاءه الطلبة من العرب والأميركيين والآسيويين وغيرهم على نبذ القيم الغربية، ومنجزات الحضارة الغربية. ويتصوّر بعض المراقبين والباحثين الأميركيين ويتخيّل، أن السعودية -إيديولوجياً- هي الآن بقوة الاتحاد السوفييتي في عزِّ مجده، وأنها تسعى إلى «سعودة» العالم على غرار الاتحاد السوفييتي الذي كان يسعى إلى نشر الشيوعية في العالم. ومن هنا انطلقت في الغرب مقولة: «زال خطر الشيوعية، وبقي خطر الإسلام»، أو: «قضينا على الشيوعية، وبقي علينا الإسلام»، أو: «زال الحُمر، وبقي الخُضر». وهم يعنون بالإسلام هنا «الوهابية» بالذات، وليس إسلام الأزهر، أو الإخوان المسلمين في مصر، كما أنه ليس إسلام «جامع الزيتونة» وحركة «النهضة» الإسلامية التي يقودها راشد الغنوشي في تونس، أو إسلام «حزب العدالة والتنمية» في المغرب، أو إسلام حسن الترابي أثناء حكم النميري في السودان... إلخ.-3 في الفترة الأخيرة، أُثيرت في أميركا -على مستوى ثقافي- ما سُمّي بالاختراق السعودي للجامعات الأميركية، ونُشرت تفاصيل كثيرة عن هذا «الاختراق» في مواقع عدة على الإنترنت. وكانت واحدة منها ما نشره الصحافي الأميركي باتريك بول Poole في موقع Front Page على الإنترنت، هاجم فيه مركز الأمير الوليد بن طلال في جامعة جورج تاون الشهيرة في واشنطن. ومن المعروف أن الأمير الوليد أنشأ هذا المركز في ديسمبر عام 2005 بمبلغ 20 مليون دولار. وهو من المراكز الثقافية والتعليمية البارزة في أميركا، التي تشجع إقامة «حوار الأديان»، والذي نحن بأمسّ الحاجة إليه، كما يهدف إلى إقامة حوار إسلامي- مسيحي دائم. ومن المؤكد أن الأمير الوليد أو غيره من المشجعين والممولين لمثل هذه المراكز الثقافية والتعليمية، لم يُنشئ هذا المركز لتعليم أو تدريس الإرهاب، بل كان الهدف منه بالدرجة الأولى محاربة الإرهاب، والذي تُعتبر السعودية متضررة منه كما هي أميركا، وربما أكثر من أميركا، نتيجة لموقعها الجغرافي، والتركيبة الديموغرافية السعودية، وواقع المناهج التعليمية، وما يدور في الشرق الأوسط من فوضى سياسية ودينية عارمة.-4 وحجة بول في تأكيده للاختراق السعودي في الجامعات الأميركية، هي أن مدير مركز الأمير الوليد وهو جون اسبوزيتو، معروف بالتطرف الديني، وأنه استطاع أن يقيم علاقات وثيقة بين المركز وجماعات لها صلة بالإرهاب الديني، ومنها «الجمعية المتحدة للدراسات والبحث»، وهذه الجمعية هي بمنزلة القيادة السياسية لحركة «حماس» في أميركا... إلخ. كذلك ففي الكونغرس الأميركي يوجد نواب وشيوخ، ممن لا يرضيهم إقامة ندوات الحوار بين الأديان، وخصوصاً بين الإسلام والمسيحية (ومنهم فرانك وولف) لكي يظل الإسلام ديناً متهماً بالإرهاب، معزولاً في مخيلة الآخرين، ولذا، فهم يترصدون مثل هذه المراكز، ويضعونها تحت أضراسهم، ويراقبون حركاتها وسكناتها، وكل كلمة تخرج منها. ولا يفتأون يتهمون كل مركز ممول من جهة سعودية أو عربية، سواء كانت حكومية أم أهلية، بأنه يسعى إلى نشر فكر الإرهاب، كذلك أصبحت كثير من مبادئ الإسلام على هذا النحو، إلى الحد الذي أصبح فيه الإسلام في الغرب عموماً وفي أميركا خصوصا، الثدي الدافئ المدرار للإرهاب، و«البعبع» الديني الذي تُلقى على شماعته انحرافات وأخطاء «المتأسلمين» المتشددين كلها، وتُرمى به جرائم الانتحاريين جميعها، في حين أن التطرف والعنف الديني كان منبعه الناصرية في مصر، وما فعلته ثورة 1952 بالديمقراطية والأحزاب المصرية، وما فعلته الدكتاتورية العسكرية في العالم العربي، كما يقول المفكر اليساري فؤاد زكريا في كتابه (الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة، ص111)، كما بدأت جماعة الإخوان المسلمين (التنظيم السري) بالتطرف والعنف الديني في مصر قبل الثورة، في الأربعينيات، حين اغتالت مجموعة من القضاة ومن المسؤولين المصريين، وعلى رأسهم النقراشي باشا رئيس الوزراء وزير الداخلية آنذاك.والإخوان المسلمون هم من بذر بذور العنف والإرهاب الديني في السعودية عندما هاجروا إليها هرباً من اضطهاد عبدالناصر في الستينيات، إذن، فقد بدأ التطرف والعنف الديني من مصر، ومن ثمَّ من سورية، وبعد ذلك من العراق حيث سادت الميثولوجيا الدينية الشعبية أثناء حرب الخليج 1991، وليس من الجزيرة العربية، وهذه حقيقة تاريخية، تغيب عن الكثير من الباحثين والمثقفين المُنصفين.* كاتب أردني