قرارت الرجال المهمة في المواقف المفصلية في حياة الأمم، هي التي تصنع التاريخ وتعطي العبر، وتكون القدوة التي تشكل الحافز لمن يريد أن يشرع جدياً في الإصلاح والتصدي للمعضلات والمشاكل التي تهدد أوطانهم، لذا كان قرار رجل الإعلام والناشط السياسي والنائب السابق محمد الصقر بعدم خوض الانتخابات المقبلة قراراً شجاعاً بمسبباته وتوقيته، ويعكس موروثاً سياسيا ضارباً في عروق هذه الأرض لمن يعي تاريخها ويُلم بتفاصيل الأحداث التي مرت بها.

Ad

شهادتي في «بوعبدالله» مجروحة، فلقد عملت مع الرجل على مدى عقدين من الزمن ضمن كوكبة من الصحافيين الكويتيين الذين منحهم الفرصة والتشجيع ليرسخوا أقدامهم في شارع الصحافة وقت كان يعز فيه وجود الكويتي في المجال التحريري المهني، ولكن تبقى كلمة الحق مطلوبة حتى لا يضيع حق من ساهموا وصنعوا حاضرنا، في خضم زمان الادعاء والمدعين.

قرار الصقر بالتخلي عن مقعده البرلماني في هذه الفترة وهو في أوج شعبيته، وعن موقعه في البرلمان العربي الذي جُدد له فيه منذ أشهر قليلة لفترة جديدة كاملة بأغلبية كبيرة، هو قرار الكبار الذين اشتروا المبادئ على حساب المنافع، وقدموا مشروع الوطن الذي توارثوا صياغته والدفاع عنه على معارك فرعية تستهدف النيل منه وتقويضه.

ويتضح ذلك في بيان الصقر الذي أكد على الرؤية الوطنية التي مزقها الواقع السياسي المرير، والأداء المتردي الذي يعانيه جميع الكويتيين، لذلك لا يمكن لصاحب مشروع الدولة أن يشارك في وأده، بأن يكون عضواً في طاقم سياسي مستمر في غيِّه، وفي وقت تتلاشى فيه أي بارقة أمل جدي في التغيير بمعالجة الآفات التي يعانيها البلد من طائفية وفئوية وقبلية، وما يلوح من بوادر باستمرار نهج المحاصصة وتبادل المنافع والخدمات، خوفاً من تقديم التضحيات في سبيل ضمان مستقبل الأجيال عبر الإصلاح الجدي والشامل.

محمد الصقر ناله الكثير من التجريح والاتهامات ممن تضرروا من تكريسه لصلاحيات وحرية السلطة الرابعة صاحبة الجلالة الصحافة معشوقته التي يتباهى دائما بانتمائه إليها، وعن طريقها كانت له بصمة فارقة في تاريخ العمل السياسي الكويتي من خلال تبني قضايا الأمة والحريات والأموال العامة، والتي ساهمت بلاشك في تغيير وجه الحياة السياسية الكويتية، ولكنه، ورغم كل ما ناله من أذى وتجاوز حتى على شؤونه الشخصية، لم يحِد عن موقف أو يساوم على مبدأ من أجل مصلحة أو كف الأذى عنه، وكانت ساحات القضاء ملاذه ومرجعه الذي أنصفه غير مرة من جور مَن قاموا بها، دون أن يتردد في دعم الحريات الإعلامية والمطالبة بالمزيد منها.

اليوم وبعد قراره المهم، فإن محمد الصقر لا يترجل ويترك واجبه ومهمته الوطنية التاريخية، بعزوفه عن الترشح للانتخابات المقبلة، بل إنه يخوض في هذه المرحلة في ميدان أرحب من العمل السياسي للدفاع عن مشروع الكويت (الوطن والدولة) الذي شكله الآباء المؤسسون، بعد أن ضاق رحاب مبنى مجلس الأمة و»قاعة عبدالله السالم» من حمل أمانته واستكمال بنائه وأضْحَتا ساحة للطعن في هذا المشروع وتدميره.

فمشروع الكويت (الوطن والدولة) لن يعود إلا بالعمل المخلص من خلال القواعد الشعبية التي صاغته وجعلته واقعاً منذ أكثر من سبعة عقود، وهي بالفعل مهمة تليق بالرجال التاريخيين الذين لا يغريهم كرسي أو منصب على حساب مصلحة الوطن وأبنائه، ولا يترددون بالتخلي عنها في المراحل الصعبة التي يمر بها البلد، ونحن كلنا ثقة بقدرتك يا «بوعبدالله» على المساهمة في إنجاز المهمة مع رجالات الكويت المخلصين المجرَّبين في الملمات وأوقات المحن.