زمن المصالحات العربية
رحبت قطر بالقمة العربية المصغرة في الرياض والهادفة إلى تنقية الأجواء وتحقيق المصالحة العربية، وأشادت بجهود خادم الحرمين الشريفين ودوره في تجاوز الخلافات وتحقيق المصالحة ولمّ الشمل لما فيه خير الأمة ومصلحتها، وأكدت دعمها ومباركتها لتلك الجهود، وكانت قمة المصالحة بالرياض بدعوة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله وحضور الرئيسين المصري محمد حسني مبارك والسوري بشار الأسد وأمير الكويت الشيخ صباح أحمد الجابر قد أصدرت بياناً يؤكد أن هذه القمة بداية لمرحلة من العلاقات لخدمة القضايا العربية والعمل الجاد والمتواصل، لما فيه خير الدول العربية والاتفاق على منهج موحد للسياسات العربية في مواجهة القضايا الأساسية للأمة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.كما أكدت أن هذه القمة جاءت تنفيذاً لإرادة جماعية من قادة الدول الأربع لتنقية الأجواء العربية، وتحقيق المصالحة استكمالاً لما بدأ في الكويت في 20 يناير بناء على دعوة خادم الحرمين الشريفين لطي صفحة الماضي، وتجاوز الخلافات لمصلحة الأمة العربية.
الجهود المبذولة والمساعي والتحركات عبر الساحة لتصفية الخلافات العربية عديدة، ويبدو أننا اليوم في زمن «المصالحات» فالإدارة الأميركية الجديدة مدت يد «المصالحة» إلى العالم الإسلامي، وسمو أمير قطر عاد من جوله إفريقية لتنقية الأجواء بين تشاد والسودان وحل مشكلة دارفور، والعقيد القذافي حمل خيمته واصطحب جيشاً ضخماً من المرافقين والحارسات وحط رحاله بقصر الرئاسة في «نواكشوط» وأمّ آلاف المصلين بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وذلك في مسعى لتحقيق «المصالحة» بين قادة الانقلاب والمعارضة، ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي دعا لؤتمر «مصالحة» يضم البعثيين والمقاومة في بغداد الشهر القادم، ومن جانبه يزور عمرو موسى- الأمين العام للجامعة- بغداد لإنجاز ملف المصالحة الداخلية بين العراقيين واستعادة الدور العربي للعراق، وفي القاهره وبرعايه مصرية، تنشط لجان المصالحة الفلسطينية تمهيداً لتشكيل حكومة وحدة وطنية أو وفاق وطني للإشراف على إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة، وإعاده إعمار غزة، وقطر تبذل مساعيها لتحقيق «مصالحة» بين الحكومة الصومالية والجماعات الإسلامية المعارضة، وباكستان أبرمت الشهر الماضي اتفاقاً للمصالحة مع طالبان الباكستانية في «وادي سوات» يتضمن وقفاً لإطلاق النار مقابل تطبيق الشريعة.هذه الأجواء من المصالحات العربية التي نرجو أن تمتد، وتتسع لتشمل كل الدول العربية، إيجابية وبناءة وهادفة وذلك بالرغم من تخوف البعض كونها مصالحة «شكلية» لا تقوم على أسس حقيقية أو أرضية مشتركة، وبالرغم كذلك من تصريح عمرو موسى بأن العقبات كثيرة في طريق المصالحة العربية، فقمة «المصالحة» في الرياض وما صاحبها من تصريحات مشجعة من القادة العرب تجعلنا نتفاءل بقدرة العرب على تجاوز مرحلة الخلافات واحتوائها، وهذه الجهود الحثيثة التي تسبق القمة العربية بالعاصمة القطرية «الدوحة» أواخر الشهر الحالي، ضرورية وحاسمة في إنجاح قمة الدوحة المرتقبة، والتي تعقد عليها الآمال الكبيرة في تحقيق أهدافها في رأب الصدع، ولم الشمل، وتوحيد الصف، ووضع حد للانقسام الزائف بين ممانع ومعتدل، وفي بلورة قمة الدوحة لرؤية عربية مشتركة للتعامل مع التحديات الخارجية ومن أهمها «التحدي الإسرائيلي» و«التحدي الإيراني»، وهذه الرؤية المشتركة تمثل الحد الأدنى المتفق عليه عربياً، ولا تصادر حق أي دولة عربية في إقامة علاقات مع الدول الإقليمية في المنطقة شريطة أن تكون هذه العلاقه لخدمة المصالح العربية، سواء في تحقيق الاستقرار في لبنان أو فلسطين أو الخليج أو المغرب العربي، فالمهم في النهاية هو «تحصين البيت العربي» في مواجة التدخلات الخارجية، ومخاطرها على الأمن العربي، وعلى استقرار المجتمعات العربية، ولا حرج على الدول العربية إذا تقاسمت فيما بينها وتفاهمت على سياسة أو تكتيك «توزيع الأدوار في سبيل خدمة الهدف المشترك» مادام رائد الجميع توظيف هذه السياسة لخدمة المصلحة العربية المشتركة.ولنا في إيران وفي إسرائيل نموذج، إذ برعتا في أداء هذه اللعبة، ففي إيران نجد تصريحات نجاد النارية ضد إسرائيل وأميركا والغرب بينما يقف خاتمي في المقابل ليتحدث عن حوار الحضارات والتعايش والتسامح وقبول الآخر، وفي حين يصدر أحد الأطراف المتشددة تصريحات استفزازية ضد دول الخليج، تبادر الحكومة الإيرانية إلى نفي أن يكون ذلك موقفها الرسمي أو تقول إن ذلك التصريح قد حُرّف وأسيء فهمه، وفي إسرائيل نجد نتنياهو الرافض للسلام وحل الدولتين ونجد ليبرمان الذي ينادي بترحيل العرب وضرب غزة بالقنابل، وفي المقابل نجد أولمرت وليفني اللذين يقبلان التفاوض وحل الدولتين، لكن الملاحظ وعلى خلاف الوضع العربي أنه لا أحد هناك يتهم أحداً بالخيانة والتفريط في القضية، ولا أحد من أطراف النزاع السياسي في إسرائيل يوزع الاتهامات المجانية بالعمالة للغرب ولأميركا ضد المخالفين مثلما يحصل عندنا في الساحه العربية، بل تجد هؤلاء، وبالرغم من اختلافاتهم السياسية وتباين مواقفهم، يجتهدون جميعاً في خدمة الهدف المشترك، وهذا ما نريده أن يكون تقليداً راسخاً ومحترماً من قبل جميع أطراف النزاع العربية، إذ لا يجوز ولا ينبغي ولا يحق لأحد أو لحزب أو حكومة أو أي جماعة سياسية أو دينية أن تحتكر الوطنية والقومية والدين والعقيدة، هذه «ثوابت» تمثل قواسم مشتركه للجميع، وغير قابلة للمصادرة أو الاحتكار أو الحجب أو المنع، ويجب أن تتسع عقول وقلوب الجميع لتقبل الخلافات السياسية التي تمثل اجتهادات متنوعة مادامت تخدم المصلحة المشتركه، فذلك دليل نضج سياسي وثقة في الذات ومرونة تسمح بالمناورة السياسية بين الحدين الأعلى والأدنى للمصالح العربية المشتركة.دعونا الآن نتساءل: لماذا هذه التحركات الحثيثة لتحقيق المصالحة العربية؟ وما العوامل المشجعة والداعمة لتلك الجهود؟ نحن اليوم نعيش مناخاً إيجابياً مواتياً للمصالحة العربية، وهذا الأمر لا يقتصر على المنطقة العربية، بل هو حالة عالمية وبالأدق حاجة عالمية، هناك اليوم العديد من العوامل التي تدفع الأطراف المتنازعة في معظم بؤر التوتر إلى إيجاد حلول توفيقية أو تصالحية تضع حداً للنزاعات ومن أبرزها: 1- إن الأطراف المتنازعة العربية والإقليمية والدولية، قد أدركها التعب وأنهكتها النزاعات المسلحة المزمنة، لذلك يقول جوزيف بايدن- نائب الرئيس الأميركي- إن بلاده والدول الأوروبية تعبت من الحرب في أفغانستان، ودعا إلى تبني توجه مدني قوي للتعامل مع مشكلة الإرهاب بالوسائل الدبلوماسية في أفغانستان وباكستان، مؤكداً أن واشنطن تؤيد مد اليد للمعتدلين من أجل إحلال السلام. 2- إن هناك إدارة أميركية جديدة تتبنى سياسة مختلفة في التعامل مع الأزمات الدولية العالقة، وهي تمد يد المصالحة لكل الأطراف المتنازعة ضمن شروط معينة قد نتفق أو نختلف معها، لكنها في النهاية تريد مساعدة من يريد المصالحة والحلول السلمية.3- إننا نعيش في ظل أزمة مالية عالمية خانقة، لها استحقاقاتها وضغوطها وتأثيراتها وتداعياتها على كل أطراف النزاع، وهي بهذا الوضع الضاغط تدفع تلك الأطراف للتفاوض بحثاً عن مخرج مقبول للجميع بدلاً من التصلب والعناد والجمود واستنزاف الموارد والجهود في غير طائل.4- نحن اليوم أمام صحوة أو عودة للدور العربي الذي كان مغيباً، وذلك بعد أن أدرك العرب أن غياب دورهم ترك فراغاً سياسياً استباحته قوى إقليمية استطاعت أن تتغلغل في العمق العربي، وتعبث في استقراره، وتغذي انقساماته، وتستثمرها لمصالحها القومية، ولخدمة توجهاتها في الهيمنة الإقليمية على المنطقة، مهددة أمن واستقرار النظام العربي كله من الخليج إلى المحيط.5- نحن اليوم أيضاً في مواجهة حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة ترفض السلام وتريد فرض حلولها المتعسفة على جميع الفلسطينيين لا فرق بين «حماس» و«فتح»، مما يشكل تحدياً أمام العرب، ولا حل أمام هذا التحدي الإسرائيلي إلا المصالحة الفلسطينية والتضامن العربي. * كاتب قطري