لم تكن الروائية الأميركية «توني موريسون» قد جانبت الحقيقة، عندما أمّنت، خلال زيارتها الأخيرة إلى لندن، على قول «أوباما» بأن الأميركيين إذا انتخبوه فإنهم لن ينتخبوه لشخصه، بل من أجل أنفسهم، ذلك لأنهم قد وصلوا، بقيادة أسوأ إدارة، إلى أسوأ مرحلة في تاريخهم، ممّا هيّأهم لانتخاب أيّ شخص مضادّ لعصابة المحافظين الجدد، فما بالك إذا وجدوا أمامهم شخصاً يشكل ظاهرة جديدة ملهمة ذات مشروع مغاير ولغة مغايرة ولون مغاير، مثل باراك أوباما؟
وإذا كان كلام موريسون في هذا المنحى، قد ورد على محمل التلميح، فإنّ طائفة كبيرة من أهل الثقافة والفن والاختصاصات الأكاديمية الرفيعة في أميركا، قد وقفت، منذ اللحظة الأولى لظهور وباء المحافظين الجدد عام 2000، موقفاً بالغ الصراحة في إظهار المعارضة والاستنكار والعداء لكلّ ما تمثّله تلك العصابة من قيم ومشاريع، إلى الحد الذي شكّل فيه بعض ردود الأفعال، وقتها، ما يشبه النبوءات بما جرّته إدارة «الجاهلين» على الأميركيين من سوء سمعة في الخارج، وسوء حياة في الداخل، ناهيك عمّا جرّته على العالم كّله من أهوال.وممّن هم في طليعة هذه الطائفة كان الروائي المميز «بول أوستر» الذي كان خلال أمسيته في «ساوث بانك» قبل أسابيع من أمسية «توني موريسون» قد عبّر، بعصبية ظاهرة، عن أنه لايزال يعيش داخل ذلك الكابوس المريع الذي ابتدأ منذ ثماني سنوات.كانت أمسية أوستر قد انعقدت لمناسبة صدور روايته الجديدة «رجل في العتمة»... لكنّه كان، بعكس موريسون التي قرأت قليلا من روايتها «رحمة» وتحدّثت كثيراً إلى جمهورها، قد آثر أن يصرف معظم وقت الأمسية في القراءة من كتابه الجديد، وأن يتحدّث قليلاً جداً مع جمهوره.ولعلّ ما حمله على ذلك هو أنّه نفسه كان بطل الرواية، وإن كان قد تنكّر فيها بشخصية الناقد الأدبي «أوغست بريل»... وعليه فإنّ ما سيقوله خارجها لن يكون أكثر وقعاً مما قاله في داخلها... إضافة إلى انّ حالة العصاب التي ظلّت تتملّكه، منذ انتخاب بوش الابن للمرة الأولى، ربّما لم تكن لتسمح له بإدارة حوار سلس غير منفعل، وحسبنا في هذا السياق أن نتأمل ما قاله بعد ثلاثة أسابيع من الأمسية، لمراسلة الغادرديان «أليسون فلود» عن بشاعة ما حلّ به كمبدع خلال حقبة بوش اللعينة، إذ إن هذا الروائي والشاعر كتب السيناريو والمحرر ومؤلّف الكثير من الكتب غير القصصية، قد وصف حالته الذهنية في هذه الفترة بقوله: «إنني خالٍ تماماً. لا أفكار، ولا خطط في رأسي، لقد عدت إلى درجة الصفر»!ما الذي أوصله إلى هذه الحالة؟ إنّها السياسة الأميركية التي أصابته بالغثيان، عند ظهور نتائج انتخابات عام 2000، وهي ذاتها الشرارة التي أشعلت نار الحكايات المتوالدة من بعضها بعضا في رواية «رجل في العتمة».وهو قد عبّر عن ذلك قائلا: «إن الحرب الخيالية التي تصفها الرواية هي حرب بالرصاص والقنابل، لكنّ الانقسام الذي نعيشه في واقع أميركا الآن قد أصبح شبيهاً تماما بحرب أهلية، والفارق هو أننا صرنا نتقاتل بالكلمات والأفكار»!ويؤكد «أوستر» أن فكرة روايته الأخيرة قد جاءت بدافع شعوره بالخيبة والقرف بعد تلك الانتخابات، فيقول بيقين تام: إنّ «آل غور» كان قد فاز، لقد انتخب رئيساً، لكنّ تلك الرئاسة سرقت منه بالحيل السياسية والقانونية، ومنذ ذلك الحين، تملّكني شعور مخيف بأنني أحيا في عالمين متوازيين: أحدهما لم نطلبه، لكنه برغم ذلك قد فرض علينا، أما في العالم الآخر فإن «آل غور» قد شارف الآن على إنهاء فترة رئاسته الثانية، وإننا لم نقم بغزو العراق، وربّما لم تكن أحداث 11 سبتمبر قد وقعت إطلاقا، وذلك لأنّ فريق كلينتون كان قريباً جداً من اكتشافها قبل وقوعها، لكنّ فريق بوش قد تجاهل، بعد ذلك، جميع التحذيرات بهذا الخصوص، وعليه فإنني أعتقد أنّ هذا هو أصل أو جذر المسألة.في روايته الأخيرة يحاول «أوستر» الهرب من هذا العالم المزدوج، بتقمّصه روح بطلها الناقد الأدبي العجوز «أوغست بريل» الذي يصارع الأرق ليلة بعد ليلة «ليلة بيضاء أخرى في البريّة الأميركية الشاسعة»... فلا يملك إلا أن يختلق القصص ويرويها لنفسه، مبتدئاً بقصة عن «أوين بريك» الرجل المقذوف من حياته كساحر في نيويورك اليوم، إلى أتون حرب أهلية.وفي حيلة فنية هي من الحيل النمطية التي يستخدمها أوستر في العادة، يكلف «بريك» بمهمة قتل الرجل الذي تسبب في اندلاع الحرب الأهلية «وهي حرب اخترعها خيال أوغست»، ويتبين لبريك، بعدئذ أن الشخص المطلوب قتله هو «أوغست بريل»!وبمثل هذا البناء يولد «أوستر» فكرة من خاصرة فكرة أخرى، ويهدم الحواجز بين الواقعي والمتخيل، ويخلط شخصيات الواقع بشخصيات الخيال دون أي حرج.ونحن نعلم أن «أوستر» مولع بسلوك مثل هذه الطريقة في معظم أعماله... ولنتذكر، مثلاً، أن «كوين» بطل قصة «المدينة الزجاجية» الواردة ضمن عمله المشهور «ثلاثية نيويورك» لم يدع فقط أنه بول أوستر، بل إنه في أحد أجزائها يلتقي «بول أوستر» الحقيقي شخصياً! وفي سيناريو فيلم «موسيقى الحظ» الذي كتبه، يظهر «أوستر» نفسه في المشهد الأخير وهو يقود سيارته على الطريق العام، حين يفاجأ برؤية بطل الفيلم وهو يركض مذعورا ممزق الثياب، بعد هروبه من جحيم سجنه الغريب، فيتوقف عندئذ لمساعدته، ويبدأه بالسؤال التقليدي: «هل أنت على ما يرام؟»... وكأنه ليس الكاتب الذي نسج له تلك الأحبولة القاتلة!وإذا لم يظهر «أوستر» شخصيا في رواية «رجل في العتمة»، فإن تجاربه الخاصة تظهر واضحة باعتبارها تجارب «أوغست بريل»... كتلك التجربة المتصلة بالحرب والتشويه العام التي تمثلت في «مظاهرات نيو آرك العنصرية» التي اندلعت في عام 1967، وكان أوستر واحدا من السابحين في خضمها عندما كان في سن العشرين.في واحد من كوابيس يقظته ينطرح بريل خلال الليل، يفكر بقلق في حفيدته «كاتيا» التي كانت مرتبطة بشاب صغير اسمه «تاتيوس سمول»، لكن تاتيوس قد مات الآن، وبقيت هي وحدها تنام منفردة بقلب مكسور.وفي نهاية الرواية فقط سنعرف أن «تاتيوس» قد قتل بطريقة وحشية في العراق!يقول «أوستر»: إن الدمار الذي لحق بمشاعر الجميع واستوطن نفوسهم، من جراء صور القتل الوحشي التي شاهدوها، هي التي دفعت «كاتيا» إلى الإسراف في مشاهدة الأفلام طول اليوم، لأنها تريد أن تغرق نفسها في لجة صور أخرى... بالطريقة نفسها التي يحاول فيها «بريل» أن يهرب من التفكير في مشاكله، بابتكار القصص وروايتها لنفسه، مما يعني أن الحفيدة والجد يستخدمان طريقتين للهرب، واحدة بالصور والأخرى بالأفكار.أعتقد أن «أوستر»، كمواطن أميركي، قد شرع، الآن، في مغادرة كابوسه الطويل، حيث لم يعد لديه، بعد محق تلك العصابة، إلا أن يتنفس الصعداء ويمسح العرق عن وجهه، ثم يتوجه لملاقاة عالمه الطبيعي المألوف، أو ما يحتمل جدا أن يعود مألوفاً.لكن العالم كله قد يحتاج إلى ما يشبه القيامة لكي يستطيع الخروج من توابع ذلك الكابوس!* شاعر عراقيتنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية.
مقالات
حديقة الإنسان: نهاية كابوس طويل
21-11-2008