كثيرون في شرقنا يفضلون إلقاء المسؤولية على الآخر لأنها توفر لهم الأمان والراحة. وفي الواقع، هذا هو سبب تخلف مجتمعاتنا الاتكالية، فهي مجتمعات تساق كالقطيع من دون تحمل أدنى حد للمسؤولية.

Ad

مازلت أتذكر صوت صفعة الوكيلة لتلميذة في أول يوم لي في المدرسة، في المرحلة المتوسطة، حين كانت أمي، رحمها الله، تمسك بيدي بينما كنا ندخل الباحة الرئيسية للمدرسة، حينها لم أرد ترك يد أمي. ومنذ ذلك الوقت لم تكن المدرسة تجربة سعيدة بالنسبة لي. ولا أزال أتذكر سرعة ضربات قلبي الصغير حين يكون وقت حصة الاجتماعيات، وخوفي وتوتري من المدرسة التي عندما تغضب، من جواب لا يرقى لتوقعاتها من تلميذة صغيرة، يحمر وجهها وتبدأ بحذف «الطباشير» وهي تردد كلمة «يا جلبة»!. وحين رزقني الله بأطفالي اتخذت وزوجي قرارا بألا نلحقهم بهذه المدارس المتخلفة التي تدمر شخصية الأطفال وتجعل منهم مشاريع فاشلة، إلا من لطف الله به. وحين أدخلناهم المدرسة الأميركية، التي تعتمد في منهجها التعليمي على الأسلوب الليبرالي، تأكدت أن قرارانا كان سديدا وسليما. وبدأت أقارن تجربتي التعيسة بتجربتهم السعيدة، فقد كنت أفرح لمرضي لأني سأغيب عن المدرسة، بينما يعتبر أطفالي عدم ذهابهم إلى المدرسة، بسبب المرض، عقابا أليما؛ فهم يجدون فيها ذاتهم ويحققون طموحهم ويستمتعون بوقتهم. وفي كل مرة ألاحظ، على غفلة، معاملة هؤلاء المدرسات للطلبة والطالبات أرغب في التوجه نحوهن لأعانقهن وأثني على أسلوبهن الراقي في التعامل مع الأطفال، هكذا كان حجم معاناتي.

كثيرة هي صور ضرب الأطفال في مخيلتي، ولانزال نرى هذه المظاهر المعيبة من ضرب وشتم وإهانة، ولا أنسى عيون تلك الطفلة الحزينة، ذات الأعوام الأربعة، التي كانت تبتسم قبل أن تنهال عليها أمها بلطمات متتالية لتسلبها عفويتها، وحين انفجرت الطفلة بالبكاء، لم تعرها أمها القاسية، قساوة الصحراء، أي اهتمام. إن أكثر ما يجعل الإنسان يتألم حين يرى في عين طفل محروم ابنه أو ابنته الصغيرة. لا أدعى أني ملاك أو أني لا أغضب على أبنائي حين يخطئون، ولكن أحاول قدر المستطاع أن أعاملهم بطريقة حضارية وأعتذر لهم عما بدر مني في حال أخطأت بحقهم.

في عالمنا المضطرب يعاني الكثير من الأطفال التوتر والقلق والاكتئاب، حسب الباحث في شؤون الطفولة د. ديفيد ماركس، والسبب هو في أغلب الأحيان فقدانهم للاستقرار والتوازن الداخلي، فنحن ندفعهم إلى النضوج قبل الأوان، ونعرضهم لضغوط شديدة وتحديات أكبر منهم، الأمر الذي قد يترك آثارا سلبية على عملية النمو النفسية والاجتماعية والبدنية، جاهلين بحقيقة أن الأطفال لا ينمون ولا يتطورون إلا إذا قضوا طفولتهم يمارسون الطفولة فقط. نحن نريدهم نسخا طبق الأصل لنا، نريدهم أن يتصرفوا مثلنا... يتكلموا مثلنا... يؤمنوا بما نؤمن به... يعملوا ما نعمله، متناسين أن لكل طفل اهتمامات وقدرات وطاقات مختلفة؛ وكما يقول جبران خليل جبران «أبناؤكم ليسوا لكم... هم أبناء الحياة... أنتم الأقواس وأولادكم سهام حية قد رمت بها الحياة عن أقواسكم».

يشعر الأبناء أنهم ذوو قيمة إذا ما طبقنا التعامل الايجابي معهم كأسلوب حياة، وإذا ما خصصنا الكثير من الوقت لنقضي معهم وقتا ممتعا في اللعب والضحك والاكتشاف، وفي الاستماع لما يقولون وتركهم يعبرون عن أنفسهم ومشاعرهم بحرية وأن يصبحوا الأشخاص الذين يرغبون، بدلا من ثقافة الطاعة والخنوع والكبت والاستسلام التي تقتل كل مشروع للإبداع والابتكار. ويؤكد علماء النفس أن الآباء الذين يكثرون من الثناء على ما يقوم به أطفالهم، حتى إن كانت أمورا صغيرة، يجعل الأبناء يشعرون بالنجاح ومن ثم يخلق لديهم دافعا داخليا لبذل المزيد من الإنجازات. لو أننا فقط تعلمنا أن نتعامل مع أطفالنا بإيجابية وتشجيع، بدلا من رصد أخطائهم وتوبيخهم عليها، وأتحنا الفرصة لمواهبهم ومهاراتهم لتنمو سنتمكن من تحقيق حياة صحية وسعيدة. وإذا أردنا أن نغير نوعية حياتنا وحياتهم، ونخلق منهم مشاريع إنسانية ناجحة، ينبغي علينا أن نعزز قيمنا الإنسانية ونغير من طباعنا الصحراوية القاسية ووجوهنا العابسة القاطبة ونخفف مما نحشو في عقولهم من تخويف وترهيب وتوتر. فلنترفق بأطفالنا ونعقد صداقة حميمة معهم، فهم مشروع مستقبلنا.